هناء الحمادي
يتداعى الماضي بصورتيه القريبة والبعيدة، فما زال الاحتفال بـ”حق الليلة” بالأمس، كما هي اليوم عبر الأجيال مع منتصف شهر شعبان، حيث يرى الكبار أنفسهم وهم في طفولتهم عندما يسمعون الأطفال يرددون الأهازيج الخاصة بحق الليلة وهم في حالة من البهجة، قائلين: “يا الله أنسير حق الله خدام بيت عبدالله، يا الله أنسير حق الليلة، الليلة أحلى ليلة”، وعندما يصلون إلى باب المنزل المنشود يقومون بطرق الباب قائلين: أعطونا الله يعطيكم، بيت مكة يوديكم، أعطونا من مال الله، سلم لكم عبدالله.
(أبوظبي) – القرقيعان أو “حق الليلة”، من أهم العادات الشعبية التراثية في الإمارات، وهي تعبر عن فرحة الأطفال الذين يجوبون الشوارع مرتدين الملابس الشعبية، ويحملون أكياساً تخاط خصيصاً لهذه المناسبة ليجمعوا فيها الحلوى، والمكسرات التي يحصلون عليها من أصحاب البيوت، مبتهجين بهذه المناسبة التي توارثتها الأجيال. ناهيك عن ذلك بعد، تردد الأطفال الصغار على الكثير من بيوت الفريج لجمع ما يستطيعون من الحلوى، ومن الأمور الطريفة التي تحدث بعد نهاية ليلتهم، أنهم يتباهون فيما بينهم أيهم جمع أكثر من الحلويات، والمكسرات، ويذكرون بشيء من المدح، والثناء صاحب المنزل الذي أعطاهم كمية أكبر ونوعيات مختلفة.
أسباب الاحتفال
وعن سبب الاحتفال بهذه المناسبة يذكر سلطان بن غافان، باحث تراثي، أن هناك عدة تفسيرات لسبب هذا الاحتفال، فمن الناس من يرجع الاحتفال إلى أن ليلة النصف من شعبان ليلة مباركة، ففيها تم تغيير قبلة الصلاة من بيت المقدس إلى الكعبة في مكة، وهناك تفسير آخر وهو أن شهر شعبان من أفضل شهور السنة فهو يقع بين شهرين فضيلين، هما شهر رجب وشهر رمضان، والبعض يرجع المناسبة إلى أن ليلة النصف من شعبان تسجل فيها الحسنات وتمحى السيئات ويستجاب فيها الدعاء والتوسل إلى الله والتقرب إليه بمختلف أنواع العبادات.
وأضاف بن غافان قائلاً: يشارك الكبار من الآباء والأمهات في توزيع الحلويات على الأطفال، وفي الأعوام الأخيرة، ونتيجة تحفظ البعض واتساع الأحياء، أخذ الكبار في تخصيص منصة أو طاولة عند باب المنزل يقف عندها الأب ليشجع الأطفال على التقدم ليوزع ما يجود به، ولا يتحفظ الأطفال على طرق كل باب غني أو فقير، لأن الجميع يشارك في هذه المناسبة الغالية، وخلال إعطاء الأطفال حلويات حق الليلة، يسمع أصحاب المنزل الأهازيج الحلوة: “عساكم من عواده ولا تقطعون العادة”، وإذا كان الأطفال أكثر سعادة بالعطية يسألون عن اسم أصغر طفل من أهل المنزل فيقال لهم مثلا محمد فينشدون الأهازيج الفلكلورية باسم محمد.
وأكد الباحث بن غافان، أن أغلب الآراء تذكر أن الاحتفال بحق الليلة بدأ في القرن الثالث الهجري، وعن سبب “التسمية”، فيقول: اختلف المؤرخون في التسمية فمنهم من يسميها “القرقاعون والقرنقعوه والكركيعان وحق الليلة”، وهي أسماء مختلفة تتفق ولهجة ولغة كل دولة من الدول الإسلامية التي تحرص على الاحتفال بهذه المناسبة.
أناشيد حق الليلة
وتذكر فاطمة صفر، إحدى المهتمات بالتراث في الجمعية النسائية بالشارقة، أن “حق الليلة” من العادات المتعارف عليها لدى أبناء الخليج العربي حيث يحتفل في النصف من شعبان بهذه المناسبة والتي تبدأ لدى البعض ليلتي 14 و15 من شهر شعبان، وهذه المناسبة من المناسبات التراثية الجميلة الموروثة عن الأجداد من مئات السنين، والتي تحولت إلى مهرجان احتفالي يلبس الأطفال فيه الملابس الخليجية التراثية التقليدية والجديدة والمزركشة والمخانق، ويحملون أكياساً متنوعة الأحجام والأشكال والألوان يطوفون بها الفريج والشوارع في داخل الأحياء ويطرقون أبواب المنازل مرددين الأناشيد والأهازيج الشعبية التي تختلف من منطقة لأخرى.
ومن أهم الأناشيد والأهازيج التي يرددها الأطفال في الإمارات خلال جمع مكسرات وحلويات حق الليلة: “عطونا الله يعطيكم بيت مكه يوديكم”، أما في السعودية فينشدون قرقع قرقع قرقيعان أم قصير ورمضان، عطونا من مال الله يسلم لكم عبدالله، عطونا الله يعطيكم بيت مكة يوديكم يوديكم لأهاليكم، ويلحفكم بالجعد عن المطر والرعد، وفي دولة الكويت يردد البنات” قرقيعان وقرقيعان، بيت قصير ورمضان، عادت عليكم صيام كل سنة وكل عام يا الله سلم ولدهم، يا الله خليه لأمه، عسى البقعة لا تخمه، ولا توازي على أمه، أعطونا الله يعطيكم، بيت يوديكم، وفي دولة قطر ينشد الأطفال “قرنقعوه قرقعوه، عطونا الله يعطيكم بيت مكة يوديكم، يا مكة يا المعمورة يا أم السلاسل والذهب يا نورة، وهكذا تختلف قليلا في البحرين والإمارات وسلطنة عمان ومهما اختلفت الأهازيج والأسماء إلا أن الجميع يتفق على أحياء هذه الليلة والاحتفال بها خاصة للأطفال.
فرحة الأسرة
مع بداية شعبان، وهي تقوم بإعداد الهدايا وشراء الملابس التراثية التي تناسب الاحتفال بالنصف من شعبان “حق الليلة”، تؤكد فاطمة الكعبي “أم لأربعة أبناء”، أن “القرقيعان” لم تعد مناسبة بسيطة كما كانت في الماضي، مشيرة إلى أنها اليوم تشمل الحلوى التقليدية والمكسرات، التي توزع على الأطفال، مبينة بأنها حجزت ما يقارب من 5 كيلوجرامات من الحلويات والمكسرات والهدايا لهذه المناسبة، وتكشف الكعبي، أن العديد من الأمهات ابتدعن الكثير من الأفكار الجميلة من حيث صنع سلات القرقيعان لأطفالهن، بالإضافة إلى شراء أفضل الأزياء الخاصة بهذه المناسبة، كما ابتدعت محال الحلوى واللعب والإكسسوارات والأزياء الجديدة لمناسبة القرقيعان الشعبية، بإضافة صورة الطفل مرتديا الزي التقليدي، حيث الكندورة والغترة والعقال للأولاد، والثوب والملابس التقليدية للبنات.
تزاور الأسر والجيران
ولا يختلف الوضع مع “أم سالم”، التي تنتظر هذه المناسبة هي وبناتها بفارغ الصبر، حيث قامت بشراء كل ما يتعلق بهذه المناسبة من حلويات حق الليلة، واشترت الملابس التراثية التي سترتديها بناتها أثناء تجولهن في الفريج مع زميلاتهن بعد صلاة العصر. تصف “أم سالم” هذه الاحتفالية بأن لها بهجتها عند الكبار أيضاً، حيث تتزاور الأسر والجيران ويتبادلون التهاني والأكلات الشعبية، ويظل كل بيت في ترقب لحين وصول الأطفال، حيث تجلس ربة البيت أمام باب المنزل وبجوارها أكياس الحلوى لتغرف لهم بـ”القفة”، عندما يحضرون ، وهم يرددون أهزوجة تحمل معاني جميلة، لا تخلو من المداعبة الوجدانية لمشاعر أصحاب البيوت، وذلك لدفعهم إلى العطاء والبذل قائلين: “عطونا من حق الله عطونا حق الليلة جدام بيتكم وادي والخير كله ينادي عطونا حق الليلة”.
فرحة أطفال الفريج
وبشوق وشغف تنتظر ميرة عبدالله “الصف الثالث” النصف من شعبان، لتحتفل مع صديقاتها وبنات عمها بحق الليلة، عن ذلك تقول” في كل عام ننتظر هذا اليوم لنجتمع مع الأهل والأقارب ونردد الأغاني الشعبية ونطوف على البيوت الموجودة في الفريج، ونجمع كميات كبيرة من الحلويات التي لم نعتد تناولها، لأنها موسمية ولا نحصل عليها إلا في ليلة النصف من شعبان”. بينما عبدالعزيز محمد (10سنوات، يرى أن التجول في الفريج من أجل جمع المكسرات، من أحلى الطقوس التي تسعدنا في النصف من شعبان، فالتنافس بين أطفال الفريج لمن يجمع الكثير من حلويات حق الليلة هي الشغل الشاغل للكثيرين، ناهيك عن أن كل الأولاد والبنات يرتدون في هذا اليوم ملابس تراثية تتعلق بالمناسبة ذاتها، وهذا ما يشعرنا نحن الأطفال بلذة الاحتفال بحق الليلة الذي ينتهى مع غروب الشمس على حد قوله.
الجد والحفيد
“عطونا الله يعطيكم، بيت مكة يودّيكم”.. هذه الأهازيج تغنى بها “الستيني حسن أحمد” في طفولته، وها هو اليوم ينظر إلى أحفاده وهم يتغنون بها وهم يجوبون “الفرجان”، لافتاً إلى أنه منذ أن وعى على هذه الدنيا حتى هذا اليوم وأطفال الفريج يحتفلون بمناسبة حق الليلة في كل عام، والتي تقام في 15 من شعبان، ففي هذه الليلة يجتمع الأقارب والأصدقاء من كل مكان ويستعد الأطفال لهذه المناسبة بملابس خاصة من التراث الشعبي، فالأولاد الصغار يلبسون الكندورة والسديري والطاقية، أيضاً تحرص البنات الصغار على لبس “الثوب” وهو لبس نسائي شعبي ترتديه الفتاة الصغيرة، ويجمع الأطفال الحلويات والنقود في كيس مخصص لجمع القرقيعان. وعن مصدر كلمة حق الليلة أو قرقيعان يضيف الستيني: “تعود كلمة القرقيعان إلى قرع الأبواب وقيل من الأصوات الصادرة عن الحلوى والمكسرات عندما تقرقع وتتحرك داخل الكيس أو كما تسمى عند البعض “الخريطة”، الذي يكون معلقاً على أعناق الأطفال فتصدر قرقعة كتعبير عن الفرح.
حلويات حق الليلة
عن حلويات حق الليلة، تبين فاطمة صفر، إحدى المهتمات بالتراث في الجمعية النسائية بالشارقة، أن حلويات أيام زمان تختلف عن اليوم فقد كانت حلويات هذه المناسبة التي ما زالت تقدم حتى البعض من الأسر هي خليط من المكسرات مثل التين وبيض الصعو بألوانه الأزرق والوردي والأبيض، و”الشكريا” وهي حلوى محلية مصنوعة من السكر والنشا تقدم جافة بألوان مختلفة وتسمى أحياناً “أصبيعات”، لأنها على شكل الأصابع، وتقطع قطعاً صغيرة، كذلك “البرميت” وهي الحلويات الشفافة التي تأتي من الخارج مغلفة بورق السولوفان بأنواع وأحجام مختلفة، و”الشاكليت” وهي مصنوعة من الحليب أو الكراميل أو الشيكولاتة، بالإضافة إلى “الزلابيا” وهي الحلوى التي على شكل مشبّك.
أما أنواع المكسرات فمنها “البيذام” وهو اللوز بأنواعه المقشر والخفيف والجاف وذو القشر، و”اليوز” وهو الجوز أو عين الجمل، كذلك “النخي” وهو الحمص المحمص، و”الحبة الخضراء” وهي حبة صغيرة لونها أخضر.
وكل من يقبل على السوق لشراء مكسرات حق الليلة، قد يحتاج إلى عدة ساعات ليحصل على مبتغاه ، فالصغار بصحبة الكبار يتوافدون على السوق لشراء حلويات هذه المناسبة التي تتنوع فيها الكثير من المكسرات، بالإضافة إلى عروض السلال والأكياس تلك التي سوف توضع فيها هذه المكسرات، حيث يكشف رحيم غلوم، صاحب محل مكسرات، أن الإقبال على شراء حلويات حق الليلة يزداد قبل المناسبة بيومين ويزداد أكثر في يوم هذه المناسبة، حيث تعج الكثير من المحال بكل أصناف المكسرات والحلويات والبفك، وتتفنن في إعدادها بطرق مختلفة من أجل جذب الزبائن، ولبيع كميات كبيرة منها بما يحقق المزيد من الربح. مشيرا في السياق ذاته: يتوفر في المحل أيضا الأكياس المخصصة للاحتفال بحق الليلة فهناك أكياس للأولاد وأخرى البنات، وذلك لتلبية رغبات جميع الأطفال في هذه المناسبة التراثية.
المصدر: صحيفة الاتحاد