كاتب سعودي
منذ أن بدأت قناة «الجزيرة» البث قبل نحو 20 عاماً والمراقب يلحظ وبذهول أن حكومة قطر تسعى إلى استفزاز المملكة عبر برامج هذه القناة وتغطيتها. وصلت الأمور إلى ذروتها بعد أحداث الـ11 من أيلول (سبتمبر) 2001، التي وقعت في نيويورك وواشنطن، وشارك فيها للأسف سعوديون. كانت «الجزيرة» سباقة في شكل لافت إلى نشر رسائل وخطب رموز تنظيم «القاعدة» بما كان يعد وكأنه دعم لوجستي صريح لهذا التنظيم. قررت حكومة قطر في تلك الأوقات – كما يبدو – الرهان على «القاعدة»، لتحقيق ما تسعى إليه من أهداف، ولا يسألني أحد عن هذه الأهداف، لأنها غامضة جداً وغير معلنة. لمّعت القناةُ تنظيم القاعدة كثيراً ولم تبخل بالدقائق والساعات التي خصصتها للتغطية والترويج المبطن له. على أن التركيز الأهم كان موجهاً نحو ما يخص المملكة، ولاسيما الترويج للمطالبات برحيل القوات الأميركية من «شبه جزيرة العرب» وهو الشعار الذي تبناه بن لادن فيما بعدُ. في عام 2003 وقعت التفجيرات في المملكة، وكنت أتوقع أن تتغير مواقف حكومة قطر، لأن الأذى اليوم أصبح في خاصرة الخليج العربي، لكن المواقف لم تتغير بل زادت ابتهاجاً وشماتةً. كانت «الجزيرة» تستضيف المحامي الإخواني الزيات الذي كان يدافع ويبحث عن أية مبررات لعمليات «القاعدة» التي تحدُث في المملكة، ثم يُستضاف الشخص نفسه مرات أخرى، للتعليق إيجاباً على خطب بن لادن والظواهري التي لا تتردد «الجزيرة» في بثها كاملة غير منقوصة، مهما احتوته من تهديد ورسائل تضر مباشرة بالمملكة.
في جميع الأحوال تمكنت المملكة من دحر الإرهاب، وهرب ما تبقى من فلولهم إلى اليمن وأفغانستان، وظهرت الحاجة إلى تأسيس قناة إخبارية عالمية، لتفنيد انحياز قناة «الجزيرة» الواضح لدعم العنف. كان المولود الجديد هو قناة «العربية» فحدث نوع من التوازن في التغطية الإعلامية. إذاً فالرهان لم ينجح. المملكة راسخة والإرهابيون مطاردون في كل مكان عبر البندقية وعبر الوعي العام، وأيضاً بسبب برامج إخبارية لافتة بادرت «العربية» بإنتاجها مثل برنامج «صناعة الموت» المتألق الذي أسهم في فضح الكثير مما كان يدور داخل أروقة تلك المنظمات. الرهان الآخر الذي تبنته حكومة قطر – وإن لم يكن بعيداً آيديولوجياً – كان على جماعة «الإخوان المسلمين» عبر بروزهم المبكر فيما يسمى بثورات «الربيع العربي». لكن قبل ذلك وبين الرهانين كان هناك ما يحاك ضد المملكة وبعض دول الخليج بطرق سرية، ولم يخرج إلى العلن إلا أخيراً في الشريط المسرب الذي ضم حديثاً خاصاً بين «وزير الخارجية» و«الرئيس» وتحديداً بعد سقوط حكومة ليبيا. سقطت جماعة الإخوان المسلمين سقوطاً مدوياً في ثورة 30 حزيران (يونيو) 2013، وتلخبطت كل الأوراق في شكل لم يتوقعه أحد. جميع الدول الغربية التي راهنت على نجاح «الإخوان» ووضعت خططها المزخرفة نحو الشكل النهائي للمنطقة وأنظمتها – على اعتبار أن هذه الجماعة ستكتسح كل هذه الدول – تراجعت، إلا حكومة قطر وحدها لم تتراجع. هناك طبعاً أحزاب استشاطت وارتفع صوت ممثليها في كل مكان، لكن معظمها صمت. هناك «مواطنون» في كل دولة، ومنها بالطبع دولنا في منطقة الخليج ممن جاهروا ضد مصالح أوطانهم في تبنيهم نهج «الإخوان». سقط «الإخوان» فرفع المتهورون من هؤلاء شعار «رابعة» في تضامن غبي. أما البقية فاستدركوا وعادوا إلى المنطق والعقل أو على الأقل الهدوء والبيات.
سقط «الإخوان» بسبب فشلهم الكبير في تأسيس الدولة القادرة على بناء النهضة المرتقبة في مصر، وقد وعدوا بها في حملاتهم الانتخابية. بعد بقاء مرسي عاماً كاملاً في الحكم، خرج الملايين بغضب إلى الشوارع والميادين. وكما حافظ الجيش على «ثورة 25 يناير» التي أتت بـ«الإخوان» إلى الحكم، فقد حافظ على ثورة 30 يونيو التي طالب فيها الشعب بسقوط حكم المرشد.
سارعت دول الخليج بعد «ثورة ٣٠ يونيو» إلى إصدار بيانات التأييد لإرادة الشعب المصري ووعدت مصر ببلايين الدولارات لتتمكن من الوقوف ومواجهة ما يعصف بالبلاد من ركود اقتصادي غير مسبوق ومن بوادر أمنية خطرة. قطر لم تفعل ذلك، وليتها توقفت هنا، بل استمرت سياسة حكومتها في دعم «الإخوان» من خلال التركيز الإعلامي على خصومهم وإبراز رموزهم المطاردين أمنياً على أنهم الطرف المظلوم. ثم عندما لم تتحقق لها العودة – على رغم الاعتصامات والمظاهرات وقبض سلطات الأمن المصرية على عدد من قياداتها – بدأنا نشاهد بعض العمليات الإرهابية في محافظات مصرية عدة في تصادف عجيب لا يمكن إغفاله. «الإخوان» – كما هو معروف – ليست بعيدة عن أعمال العنف منذ نشأتها حتى وإن تظاهرت بعكس ذلك. العجيب الذي لا نجد له أي تفسير – ومع كل هذه التحولات – هو استمرار نهج هذه السياسة القطرية والتحريض اليوم على الشعب المصري. الولايات المتحدة القوة العظمى في العالم تراجعت – كما أشرت – واستجابت لإرادة المصريين، على رغم موقفها السابق. السياسة في جميع الأحوال تتطلب التوقف أحياناً والمراجعة والمرونة، إلا سياسة حكومة قطر، فهذه الأمور غائبة، وبقيت هذه السياسة ثابتة، أو كما نقول باللهجة العامية «مدرعمة» في اتجاه مضاد لتوجهات الشعب المصري وكل الدول الخليجية ودول من العالم.
ما الذي تسعى إليه حكومة قطر؟ هل مشكلتها حجمها؟ وما الذي يتخيلونه هناك كحل لهذه المشكلة غير دفن المزيد من الشواطئ بالرمل؟ هل للقاعدة الأميركية الضخمة في منطقة العُديد علاقة بمستويات الجرأة التي تمارسها حكومة قطر؟ وما يزيد هذا السؤال تعقيداً هو ما يتردد أخيراً من محاولات تقوم بها هذه الحكومة، للإقلال من أهمية علاقة باكستان بالمملكة ثم دعمها المالي للقبائل الحوثية في اليمن، وهذا بالنسبة إلى اليمن والمملكة تصرف عدائي فج. هناك بالطبع دعم قطري لجبهة «النصرة» في سورية، وهذه المنظمة – كما نعلم – من فروع «القاعدة» المصنفة عالمياً كمنظمة إرهابية. هل هذا امتداد لمواقف حكومة قطر من «القاعدة» إبان عمليات القاعدة التخريبية في المملكة، كما تمت الإشارة إليه في صدر المقالة؟ أما أقصى درجات التعجب فكانت تتمحور في صمت المملكة عقدين من الزمن عن كل هذا الأذى الذي لم يعد خافياً.
حكومة قطر – ومع صمتنا وتغليب مبادئ الأخوة وحسن الجوار – زادت في تهورها طبعاً عندما ضمت الإمارات والبحرين إلى سلة الأهداف. هنا نتوقف ونعيد عملية الجمع. الآن مصر والمملكة والإمارات واليمن والبحرين وبعض المناوشات ضد الكويت تمثلت في دعم بعض الأحزاب السياسية المناهضة للدولة هناك. لا، المسألة بحاجة إلى تفسير جديد، فالهدف اليوم ربما لم يعد المملكة فقط بل تقريباً المنطقة برمتها.. من المستفيد؟
بالأمس القريب قررت المملكة والبحرين والإمارات اتخاذ خطوة عملية موحدة للفت نظر حكومة قطر ومحاولة إعادتها إلى الواقع وأن ما تقوم به لم ولن يعود مقبولاً. الأيام وحدها ستثبت لنا ما الذي يمكن لهذه الحكومة فعله وهل سيكون من القليل المتأخر غير المقبول أم الحد الأدنى الذي أصلاً لن ترضى هذه الدول الثلاث بأقل منه؟ هل سترتفع وتيرة الخلاف وتدفع الأطراف إلى اتخاذ إجراءات أكثر تشدداً؟ وهل يجوز القول إن حكومة قطر أصبحت إحدى ضحايا السقوط المريع لـ«القاعدة» أولاً ثم «الإخوان»؟ هل ستبحث هذه الحكومة عن رهان آخر؟ كل هذا في علم الغيب وسيصعب على أي محلل التنبؤ بشيء، بسبب ندرة التجارب المماثلة. التاريخ الحديث لم يشهد تمرد دولة بهذا الحجم وبهذه الجرأة على جيرانها الأكبر والأقوى منها، إلا في حال واحدة. تلكم هي تمرد حكومة مانوييل نورييغا رئيس بناما على الولايات المتحدة في نهاية الثمانينات الميلادية الماضية، لكن تلك القصة لم تدم طويلاً فقد تمكنت فرقة صغيرة من المارينز من الدخول إلى قصر نورييغا ليلاً وتم القبض على الرئيس وإيداعه السجن في ولاية فلوريدا في مطلع عام 1990، وتم طي هذه التحرشات مرة واحدة وإلى الأبد.
المصدر: الحياة