احتشدت العقول من مختلف المشارب الفكرية بمثل ما احتشدت قاعة بلدية باريس باللوحات الفنية فائقة الجمال، في القاعة التي شهدت توقيع إعلان الجمهورية الفرنسية قبل قرون، في ملتقى «الشرق والغرب.. نحو حوار حضاري» والذي حمل اسمه بالفعل، وشهدت تدافع الافكار بشكل حميم، بدلا من تدافع المناكب الذي تشهده ساحات العلاقة بين المشرق والمغرب. وكان الظاهر سيطرة ثلاثة قضايا على مجمل أعمال اللقاء، الذي وإن كان قصيراً زمنياً ولمدة يوم واحد، ولكنه كان ثرياً بالنقاش حول قضايا «العولمة» كثقافة سائدة أو تسعى لاكتساح الفكر العالمي، ومقابلها قدم شيخ الأزهر الدكتور أحمد الطيب فكرة «العالمية» كبديل عنها، في وقت ظلت قضايا مثل «الاندماج» بالنسبة للمهاجرين واللاجئين في أوروبا، حاضرة، ومقابلها رفض توطين الديمقراطية في الشرق الاوسط عبر الغزو.
وكان لقضايا العلمانية والثقافة والفنون واحترام حقوق الأقليات حضور في ثنايا الكلمات التي القيت في جو يسوده العقل والفكر واحترام الآخر، والتي ابتدرتها عمدة باريس آن هيدالغو، التي امتدحت علاقة المسلمين بالغرب بشكل عام، وأن هناك تشابهاً بين الشرق والغرب، وأن باريس صاحبة علاقة قديمة مع الشرق وكانت نقطة لالتقاء مع الغرب، وقالت «أنا مثلاً ولدت في بلدة شكلها الفينيقيون القادمون من الشرق». وقالت إن العالم الآن يمر بمشكلات اقتصادية وسياسية وأخلاقية أفرزتها ظاهرة العولمة التي تجتاح المجتمعات، إضافة إلى الإرهاب، وطالبت بتكثيف الجهود بالحوار لإيجاد حل لهذه المشكلات، وشكرت جهود هيئة حكماء المسلمين لإقامتهم هذا الحوار في باريس، التي هي نقطة التقاء بين الشرق والغرب منذ القدم، وطالبت الفنانين والعلماء بلعب دور محوري والتحدث فيما بينهم لفهم بعضهم بعضاً، كما طالبت بأن نتشارك عمق المعرفة وفتح المسارح والمتاحف لأن الفنون اقصر طريق لمعالجة مشكلات صدام الإثنيات والأعراق، ورفض الآخر، والعودة إلى روحانية الأديان.
وعبر شيخ الأزهر الشريف في كلمته عن رفضه للعولمة، وقدم لها بديلاً يتمثل في «العالمية» التي سبق وأن روج لها الأزهر الشريف عبر «عالمية» الإسلام. وطالب بأن تكون «قضايا الاندماج» هي محور المؤتمر القادم، ودعا المواطنين في أوروبا لتقديم نموذج المدينة في صدر الرسالة التي تقوم على المواطنة وفق دستور المدينة، وطالب المسلمون منهم بألا تكون القوانين الأوروبية في قضايا الحجاب وغيره حاجزاً أمامهم للاندماج أو القطيعة، وقال: عليهم أن يحترموا القوانين ومدافعتها عبر سبل القانون وليس الرفض والانعزال، وطالب الأئمة بلعب دور في ذلك وتقديم الفتاوى الميسرة من مفهوم الدين يسر وليس عسراً، وطالب الاعلام الغربي بالانضباط وعدم الإساءة للمقدسات الإسلامية والمسيحية على السواء.
ودعا في كلمته أمس، أمام ملتقى حكماء الشرق والغرب في باريس إلى التحرك بفاعلية لوقف نزيف الدماء، التي تهدر يومياً على أيدى المتطرفين والمتعصبين. وقالت مشيخة الأزهر في بيان أمس: «إن الطيب أكد أن الحوادث الإرهابية التي يشهدها العالم تَفرِضُ على أصحاب القرار النافذ والمؤثرِ في مجريات الأحداث، أن يتحملوا مسؤولياتهم كاملةً أمامَ الضمير العالمي والإنساني، وأمام التاريخ، وأمام الله يوم يقوم الناس لرب العالمين، لوقف حمامات الدماء المسفوكة».
وحذر الطيب من تأثير المواد الإعلامية السلبية التي تسيء للمسلمين، وتصورهم للشارع الأوروبي على غير حقيقتهم، ومن ذلك الرسوم المسيئة للنبي محمد – صلى الله عليه وسلم- عن وعي وقصد وجهل تام بمكانة الدِّين ومنزلة الأنبياء في قلوب المسلمين، والخلط بين الصورة الحقيقية للمجتمعات الإسلامية الشرقية، وبين ما يحدث في مناطق الصراع والتوتر من صُور الدماء والأشـلاء.
ورفض شيخ الأزهر تسييس الوجود الإسلامي في أوروبا، والمضاربة به في بورصة الانتخابات، لجذب مزيد من الأصوات، لأن ذلك ينعكس سلبًا على علاقات الأوروبيين بمواطنيهم، داعيا إلى استبدال «العولمة» بـ«العالمية»، مؤكداً أن العولمة أدت إلى تدمير هوية الشعوب، وخصاصها التي خلقها الله عليها، وقال: العالمية عبّر عنها شيوخ الأزهر في القرن الماضي بأنها الزمالة العالمية، أو التعارف كحل لانقسام العالم.
وأوضح الطيب أن تهميش المسلمين في الدول الغربية أدى إلى انتماء بعض شبابهم إلى الجماعات المتطرفة، ولفت إلى أن بعض المسلمين يطلقون دعوات باسم الدين زوراً وبهتاناً، وأشار إلى أن البعض يأخذ على الأوروبيين تسييس السلبيات التي يقع فيها بعض المسلمين، ودعا المسلمين إلى أن يعوا جيداً أن المواطنة الكاملة لا تتناقض مع الحفاظ على الدين، مقترحاً أن يناقش اللقاء الثالث بين حكماء الشرق والغرب قضية الاندماج داخل الدول الغربية.
من جانبه، انتقد البروفيسور اندريه ريكاردي مؤسس جمعية سانت ابيجيدو ظاهرة «العولمة المسطحة» و«الرمادية» وحيدة اللون، ولام الغرب على سعيه لتشكيل هوية العالم الفكرية عبر هذا النموذج من العولمة، وقال «يجب أن تكون العولمة كفكرة غير مسطحة وانما قابلة لوجود الوان تمثلها الثقافات الاخرى، والهويات الاخرى، لان ذلك يساعد كثيرا على وجود عولمة تقبل الاخرين، بهوياتهم من دون ان يحتاجوا أو يخافوا من الذوبان في هوية اخرى».
وكان للشيخ عبدالله بن بيه، رأي سديد ووجد الاستحسان، متمثلاً في سؤال قام بطرحه: من الذي يحدد الشرق والغرب؟ هل هو شرق جغرافي أم شرق ذو محمول تاريخي قديم؟ وصوب النظر إلى جهة عدم فرض الديمقراطية بالقوة مثلها مثل محاولات فرض العولمة بتفاصيلها الماثلة. وقال «فرض الديمقراطية قاد إلى تمزيق العراق، علينا ان تكون قضيتنا المركزية هي فرض السلام لأنه القيمة الأعلى من الديمقراطية»، ووصف العلاقة بين الشرق والغرب بانهما كتوأمين سياميين لا ينفصلان، ولكنهما مختلفان في الوقت نفسه، مشيراً إلى أن الغرب في السابق كان يصدر الافكار، ولكن الان صار يصدر الأسلحة، كما ان الشرق كان يرسل تراجم العلوم، ولكنه الان صار يرسل اللاجئين والمهاجرين، وطالب بالعودة إلى اصل هذه المعادلة وليس بناء الجدر والحوائط بين المجتمعات.
وهو نفس الطريق الذي كان الدكتور علي النعيمي الامين العام لمجلس حكماء المسلمين، سار عليه عندما ابتدر الجلسة، وذلك بعد أن شكر ثمار التعاون بينه وبين منظمة سانت ابيجيد، وقال: «الشرق سيظل شرقاً، والغرب سيظل غرباً، ولكن يجب مد الجسور عبر هذه اللقاءات، وبمثل ما فعل البابا بزيارته للفاتيكان امس، بهذه الطريقة نلغي الفواصل الثقافية».
ورغم اقراره بالتقصير في عدم قيام هذه الزيارة من قبل، لكنه قال مع هذا فهم لديهم رصيد وافر من الحوار يستندون إليه، منذ لقاء فلورنسا في ايطاليا العام 2015 الذي قاد إلى نتائج حقيقية وملموسة ما شجع لعقد هذا اللقاء. وقال: «رغم مصطلحات الصراع الديني، والثقافي فلدينا مشتركات متمثلة في الانسانية، وننطلق بالحوار منها لنفتح الباب للاجيال القادمة»، معتبراً أن قيام مجلس الحكماء أتى لبناء السلام ومحاربة التطرف ونبذ الاختلاف، وأن هذا اللقاء يجب يخرج بنتائج تبني على نتائج الحوار السابقة ونمضي إلى الأمام.
وما كان لافتاً هو حديث البرفيسور الكسندر ادلير المفكر والباحث في الجغرافيا السياسية، الذي أطال الحديث عن مقارنات وحالة نشوء فكرة الجامعة كمحل لتلقي العلم، بمفهومها الحديث، وأنه ينطلق من قول علماء الفيزياء الذين توصلوا إلى ان لكل فعل رد فعل، وقال: «أولى الجامعات التي قامت في الغرب كانت لتدريس اللغة العربية في القرون الأولى، للحصول على أصول العلوم، التي كانت لدى العرب في الأندلس، الذين ترجموا وطوروا في علم الطب ومداواة المرضى، وان جامعة القيروان كانت اول جامعة بالمعنى المفهوم»، لكنه لفت إلى نقطة مهمة عندما تحدث عن كون الأزهر الذي يقود العالم السني الآن، هو منشأه شيعي من قبل الفاطميين، ومع قوانين تحول المجتمعات صار مرجعية للسنة، وأن جامعة القيروان لم تكن لديها هوية مذهبية، وتساءل لماذا نرى التعصب للطائفية الآن، لكنه من جهة اخرى صوب الحديث عن اختفاء الروحانيات من المسيحية كما اليهودية، وان العالم المادي الحالي تنقصه العودة اليها، وطالب بمكافحة العنصرية بقوله، نحن اللذين نقف إلى جانب الحوار كوسيلة حياة نحن اغلبية، ويجب الا ننهزم امام الأقلية التي يمثلها التطرف.
وعلى الدرب الأخضر نفسه سار البروفيسور فرانسوا كلافيرولي رئيس الاتحاد البروتستاني في فرنسا، عندما نوه بأن المسيحية دين شرقي في جذوره، ومع تفاعله في الغرب، تولدت منه مذاهب اخرى واحتربت ثم تعايشت، وان الشرق والغرب توأمان «يغاران» من بعضهما بعضاً، ولكن لديهم قدر موحد للعودة بالعالم إلى الروحانية بعد هذه المادية التي سيطرت عليه والشرور التي تعيث فيه. وقال «الديانات مدعوة لمدافعة الشياطين الموجودة والمتمثلة في العنصرية والتطرف والكسل الفكري». ولفت إلى أن الأخير يتطلب السهر وحرية الضمير لأن حرية الفكر والعمل عليه هي الطريق لقطع الطريق على الساعين للفرقة والشتات.
رئيس البرلمان الاوروبي السابق بروفيير هانز جيرت بوتريغ، اشار إلى نقطة مهمة عندما ابتدر قوله، بأن الارهاب يضرب في الشرق كما هو في الغرب، وان الإرهاب بلا وطن، وأن إغلاق الحدود أمام المهاجرين ليس هو الحل، وألا نترك المجال للقوى «الشعبوية» أن تسيطر على حياتنا مثلما يفعل ممثلو اليمين المتطرف، وأن اوروبا نفسها ليست لديها هوية موحدة، فهي تعيش تحت ظل ثلاث هويات «محلية وقطرية ودينية»، وقال «هذه الهويات يستغلها الشعبويين الذين صعدوا بعد انحسار الأفكار اليسارية، وهم يخوفون الاوربيين بانهم سيفقدون تراثهم وهويتهم على وقع أقدام المهاجرين».
وأكد أنها فكرة خاطئة جداً، وأنها مخاوف ليست في محلها، مؤكداً أن حوار الاديان، هو احد مبادئ الاتحاد الأوروبي التي تأسس عليها، وهو من ضمن دستور الاتحاد، وليس هناك مفر غير مزيد من الحوار، وليس اقامة الجدران بين الأمم والشعوب.
المصدر: الخليج