انتهى الانقلاب العسكري التركي في ساعتين، لكن توابعه ستستمر طويلاً على ما يبدو. وبعيداً من التفسيرات والتحليلات التي ناقشت طبيعة الانقلاب وحقيقة من يقف وراءه، فإن الحملة الأردوغانية الفاقدة للرشد، إذا استخدمنا تعبيراً ملطَّفاً، قامت حتى الآن بإبعاد 70 ألفاً عن وظائفهم بعد نحو أسبوع من المحاولة الانقلابية العجيبة، والمسلسل، كما يبدو، لا يزال مستمراً.
قيل الكثير عن سلوك أردوغان وأتباعه خلال تسعة أيام مضت، وليست هناك حاجة إلى تكرار النتائج التي بدت واضحة للعيان عن حال من الهوس التي تلبست أردوغان وجنون العظمة الذي تملّكه وطاقات العنف والكراهية، التي انطلقت تعبر عن نفسها بلا رادع ولا ضابط، غير أن ما يلفت النظر هو «البصمة الإخوانية» الجلية في كل ما اتخذه أردوغان من إجراءات تثير القلق على مستقبل بلد إسلامي بحجم تركيا، وتلقي بظلال قاتمة على صيغ التعايش التي توافقت عليها فئات المجتمع وجماعاته ومكوناته، والتيارات السياسية والاجتماعية التي كانت تبحث، على رغم كل شيء، عن نقاط للتوافق تحت مظلة وطنية جامعة.
«البصمة الإخوانية» تبدو في استهداف أردوغان قطاع التعليم تحديداً، إذ فُصل بعد خمسة أيام فقط من الانقلاب 15 ألف معلم من وظائفهم، وسُحبت رخص العمل من 21 ألف معلم في المدارس الخاصة. ولعلنا نذكر أن التسلل «الإخواني» المخادع في بلدان الخليج العربي وفي بلدان عربية وإسلامية أخرى بدأ من مجال التعليم تحديداً، بهدف السيطرة على عقول الناشئة والتحكم فيها وهي لا تزال في مرحلة التشكل، وقبل أن تتطور قدرتها على فرز الجيد من الرديء من الأفكار.
إنها ليست مصادفة أن يكون نصف من أبعدهم أردوغان من المنتمين إلى حقل التعليم، فهو لا يتصرف خارج «الكتالوغ الإخواني» المعهود. ولا يحتاج الأمر إلى كثير من الذكاء لنعرف أن مدارس تركيا ستتحول إلى حاضنات لفكر الجماعة، وذراعاً من أذرع حزب «العدالة والتنمية». ومن ثم لن تكون المدارس مؤسسات اجتماعية لتهيئة الفرد للانتظام في المجتمع والتواؤم معه بقدر ما ستكون مدارس تلقين حزبية تعلو فيها الأيديولوجيا على ما عداها من اعتبارات، ولن تكون المدارس مكاناً للانصهار في شعور وطني جامع، بقدر ما ستكرِّس الانقسام والشقاق. وبالطبع، سيؤثر ذلك في نوعية التعليم وكفاءته كما حدث في كل التجارب التي سيطر فيها «الإخوان» على هذا القطاع، ولكن من قال إن الكفاءة والنوعية مما يشغل رجب طيب أردوغان و»الإخوان المسلمين»؟
الهيمنة المطلقة والكاملة سمة «إخوانية» أخرى كانت لها مظاهر لدى أردوغان من قبل، لكن تداعيات الانقلاب أتاحت للرغبة الأردوغانية («الإخوانية» المنشأ والأصل) في الهيمنة الكاملة والمطلقة أن تبدو سافرة من دون مواربة. فلم يعد الأمر محاسبة لمن تورط في الانقلاب، بل أصبح ذريعة للإبعاد العنيف والتام لكل من يختلفون مع أردوغان في الرأي. وليس ذلك ببعيد عن تجارب سابقة ومتنوعة لجماعة «الإخوان المسلمين» حرصت فيها على أن تُبعد كل من لا ينتمي إليها عن مواقع التأثير والقرار. ويحدث ذلك في حال حكم دولة كبيرة، كما هو تماماً في حال نقابة مهنية أو جماعة طلابية، إذ يكون المبدأ هو الهيمنة التامة والمطلقة وإبعاد «الآخرين». والخصوم هنا ليسوا المناوئين لهم سياسياً وفكرياً فحسب، بل يمتد ذلك إلى كل من لا ينتمي إلى الجماعة، في نظرة تتشابه بقوة مع النظرة إلى «الأغيار» وفقاً للمفهوم اليهودي. وعادة ما يظهر هذا الوجه القبيح بعد سنوات طويلة من المداورة و«المسكنة» وتكريس المظلومية، بما يخدع الناس لوقت طويل، وهو عينه ما فعله أردوغان لسنوات قبل أن يشعر أنه لم يعد في موقف الضعف الذي يُجبره على المواربة والتخفي.
أوضح الانقلاب أيضاً أن أردوغان أسس تنظيمات «تحت الأرض» يعتمد عليها أكثر من اعتماده على أجهزة الدولة، وهذه من بين ثمار الانتماء إلى جماعة لم تعتد العمل في النور. وتكشفت وقائع كثيرة عن أن من خرجوا إلى الشوارع للتصدي للانقلاب لم يكونوا من «جموع الشعب» كما أشيع، بل كانوا في معظمهم أعضاء تنظيمات وتشكيلات نشأ بعضها داخل أجهزة حكومية، كالشرطة والاستخبارات. وتزداد كل يوم الدلائل على أن هناك «جيشاً داخل الجيش» و«استخبارات داخل الاستخبارات» و«شرطة داخل الشرطة» تعمل خارج الإطار المؤسسي المفترض. والفكر الذي يقف وراء تأسيس هذه التنظيمات ينبع من شكوك «إخوانية» الجذور تجاه مؤسسات الدولة، وانعدام للثقة بها، ورغبة في تحطيمها لتقوم على أنقاضها مؤسسات «إخوانية» صرفة لا مكان فيها لآخرين. وإذا كان المفترض في القوات المسلحة والشرطة والقضاء والاستخبارات أن تكون تابعة للدولة لا لحزب أو لتيار بعينه، فإن «الإخوان المسلمين» لا يتصورون هذه المؤسسات خارج سيطرتهم التامة والمطلقة، حتى لو كان الثمن هو تقويض المؤسسات القائمة، وترك الوطن في مهب الشقاق والانقسام.
إن هذه المؤسسات الموازية هي وصفة أكيدة للاحتراب الأهلي، وسوف تتحول بشكل تلقائي إلى جماعات تمارس الإرهاب ضد الدولة إذا فقدت جماعة «الإخوان المسلمين» الحكم. وتقدم تجربة مصر درساً في هذا الصدد، حيث استغل «الإخوان» الفترة القصيرة التي قبضوا فيها على زمام الحكم في مصر لتشكيل وتسليح تنظيمات تنشط الآن في سيناء وفي مناطق شتى من مصر. ولولا انضباط القوات المسلحة المصرية وتقاليدها الراسخة التي منعت تغلغل «الإخوان» فيها لكانت التبعات أفدح. وتنظيمات رجب طيب أردوغان وخلاياه السرية لم تكن غير تطبيق حرفي لهذا المبدأ «الإخواني».
كان هناك أيضاً نزوع إلى ممارسة العنف، بوصفه أساساً من الأسس التي ارتبطت بجماعة «الإخوان المسلمين»، غير أنها تؤجله إلى اللحظة التي تمتلك فيها القدرة على ممارسته. وكتب حسن البنا في رسائله: «في الوقت الذي يكون فيه لكم معشر الإخوان المسلمين ثلاثمئة كتيبة قد جهزت كل منها نفسها… في هذا الوقت طالبوني بأن أخوض بكم لجج البحر، وأقتحم بكم عنان السماء، وأغزو بكم كل عنيد جبار، فإني فاعل إن شاء الله». وربما تبدو صورة جلية لهذا العنف لدى أردوغان في حديثه بعد يوم واحد من الانقلاب عن عقوبة الإعدام التي يركز عليها في تصريحاته، وهو يغطي رغبته الذاتية في رؤية الأجساد تتدلى من المشانق بزعمه أن «الناس في الشوارع طلبوا ذلك. الشعب يرى أن هؤلاء الإرهابيين يجب أن يعدموا. لماذا يتعين عليّ احتجازهم وتوفير الطعام لهم في السجون لسنوات مقبلة؟ هذا ما يقوله الناس».
إن سلوك أردوغان يبدو ممهوراً على الدوام بلمسة «أردوغانية» تعود إلى شخصيته المتقلبة وجنون العظمة الذي ينتابه كثيراً وميله إلى الاستعراض والمباهاة، لكن وراء هذه اللمسة الشخصية يكمن فكر جماعة «الإخوان المسلمين»، وما تربى عليه أردوغان في دهاليزها المظلمة.
وهكذا يبدو أن الانقلاب الحقيقي هو انقلاب أردوغان على تركيا وليس انقلاب الجيش. إنه انقلاب على الدولة التركية، وعلى القضاء، وعلى التعليم، وعلى أحزاب المعارضة التي وقفت معه وساندته حفاظاً على الدولة المدنية. قام انقلاب الجيش وانتهى في ساعتين، فيما انقلاب أردوغان يبدو آخذاً في التصعيد لاختطاف تركيا إلى حيث يريد.
المصدر: الحياة