لا يشعر المتجوّل في باريس بملل أو تعب لما فيها من سحر وتجدّد. يمنح المشي في الشوارع والأزقة الضيقة الزائر متعة للنظر وللسّمع. تتغيّر المدينة وتتبدّل وجوهها كلما عبرْت من حي إلى آخر. موسيقيون يعزفون على الطرق وفي محطات المترو، لا يبخلون بنشر أنغامهم في فضاء المدينة مقابل بدل مادي بسيط يضعه المارة في قبعة.
وفي ساحتَي بومبيدو وتروكاديرو وعلى الجسور القريبة من برج إيفل، يتوزع فنّانون لتوثيق معالم المدينة ووجوه السياح، أو بيع لوحات أنجزوها بحب عن كل ما هو جميل حولهم.
ولا تكتمل الجولة السياحية الفنية في باريس إلا بزيارة حي مونمارتر التاريخي الذي زاره فنانون كداليدا وبابلو بيكاسو وفنسنت فان غوغ وسلفادور دالي، وساحة «تارتر» التي تستضيف رسامين من حول العالم، ولذلك سميت «ساحة الرسامين والفنانين».
نتوجه إلى «ساحة تارتر» بأزقتها الضيقة التي تعود إلى القرن الثامن عشر، لندخل حياً قديماً تُسمع فيه الجدران تنطق بحكايات أشخاص عاشوا في المكان. توحي تفاصيل المكان بالكثير. هنا اعترف شاب بحبه لفتاة شقراء وطلب يدها للزواج، وهناك انتهت قصة حب عاصفة.
تستضيف ساحة الرسامين والفنانين في الحي، 300 مبدع من جنسيات مختلفة. واللافت في الأمر أن الساحة تضم مختلف مدارس الفن، فلا نجد تشابهاً في الأسلوب بين فنان وآخر، بل يعمد الجميع إلى ابتكار أسلوب خاص، يميّز اللوحات عن بعضها. وثمة العديد من الفنانين من أصول عربية، يمارسون هوايتهم بنفس مشرقي، ويتفنّنون في رسم المدينة بمفرداتهم العربية وبألوانهم الدافئة.
لم يغادر الروماني جاك (75 سنة) الساحة منذ 16 سنة. يعمل في الحي ويسكن فيه. منذ وصوله إلى باريس توجه إلى حي مونمارتر ولن يفارقه إلا بعد موته، مشيراً إلى أن ساحة تارتر هي المكان الوحيد الذي يقصده. يرسم السياح بأسعار معقولة، ويتحدث مع المارة وزملائه ويبتعد عن كل ما له علاقة بالحزن.
قصد المغربي مأمون الساحة قبل سبع سنوات، لتعلّم أصول المهنة وساعده زملاؤه كثيراً لنيل رخصة والعمل في شكل قانوني. ويرى الشاب الذي هرب من بيئته المحافظة وأبيه الذي لم يتقبل أن يكون رساماً، أن العمل في الساحة متعة لا يضاهيها شيء. ويقول: «من خلال عملي، تعرفت إلى جنسيات متعدّدة، وكوّنت صداقات كثيرة. تمنحني الساحة صفاء وهدوءاً وسلاماً داخلياً أبحث عنه. لست منبوذاً هنا على الأقل بل فنان محترم، أعمل لكسب قوتي اليومي لا أكثر».
ويبدو الفرح واضحاً في عيون زائري المكان، يتنقلون بين الفنانين متأملين لوحات معروضة. منهم من يرغب في أن يُرسم بطريقة كلاسيكية، في حين يتوجه سياح إلى فنانين ليرسموهم بطريقة كاريكاتورية. ولمحاربة العمل غير الشرعي، قررت السلطات الفرنسية عام 1990، فرض بطاقة مهنية سنوية على الرسامين الذين يرغبون في العمل في الساحة (1 متر مربع للشخص الواحد) تمنحها بلدية باريس، وفقاً لملف يتقدم به الرسام يشرح فيه سيرته الذاتية ومؤهلاته.
المصدر: الحياة – باريس – محمد غندور