كاتب سعودي
يشير البعض لمسألة الزيادة السكانية المطردة ويربطها بكثير من مشاكلنا الحالية مثل البطالة وتكدس المدن، بل ويشير البعض لأهمية فرض سياسات تحديد النسل للتحكم في هذه الزيادة السكانية السريعة. واقع الأمر أننا في المملكة لا نزال إلى اليوم دون استراتيجية سكانية واضحة تبين إذا ما كانت الدولة بحاجة حقا لاتباع سياسات تحديد النسل أو أنها بحاجة لسياسة تحفز النمو السكاني.
على مدى تاريخها لم تشهد المملكة سوى 5 عمليات إحصاء سكاني في الأعوام التالية (1962، 1974، 1992، 2004، 2010). وطبقا للباحثة فرانسواز دو بلاير Francoise de Bel-Air كان الإحصاء الأول (1962) ناقصا ولا يعتد به كونه لم يغط كافة أنحاء المملكة أو مناطقها السكانية. أما الإحصاء الثاني (1974) ورغم كونه أول إحصاء سكاني شامل في تاريخ المملكة إلا أن نسبة تغطيته ودقة معلوماته اعتبرت ضعيفة. أما الإحصاء الثالث (1992) فمن الواضح مما تبين من الإحصائيات اللاحقة أن أرقامه ونسبة الزيادة السكانية فيه تم تضخيمها. أما الإحصاء الرابع (2004) فيبدو أنه اعتمد تخفيض نسبة السكان غير السعوديين (خاصة مع ارتفاع نسبة غير النظاميين) وذلك لعدم إظهار حجم غير السعوديين من مجموع السكان. وأخيرا فيما يتعلق بالإحصاء الخامس والأخير (2010) فإنه ورغم مضي 5 سنوات عليه فإن نتائجه النهائية لم تنشر إلى اليوم بشكل رسمي.
شهدت المملكة خلال فترة السبعينات والثمانينات طفرة سكانية ووصلت نسبة زيادة السكان إلى حوالي 6% سنويا لكنها انخفضت اليوم إلى حدود 2.5% سنويا في 2014، ومن المتوقع أن تصل لحدود 1.5٪ للفترة من 2015ـ2025. من جهة أخرى انخفض معدل الخصوبة (متوسط عدد الأطفال الذين تنجبهم المرأة في حياتها) من 7.3 تقريبا خلال الفترة 1975ـ1980 إلى 2.3 في 2011، وهو رقم قريب من معدل الاستبدال 2.1replacement level المطلوب للحفاظ والزيادة على عدد سكان أي دولة مع الوقت. (انظر مقال كاتب هذه السطور: هل يزيد الشعب السعودي أم ينقص؟ جريدة الوطن بتاريخ 23/9/2012).
الانفجار السكاني الذي يتلمسه الناس هو نتيجة الزيادة الكبيرة للسكان في الجيل السابق، ويدل على ذلك أن أكثر من 60% من سكان المملكة أقل من 30 سنة، والكثافة السكانية التي يشعر بها الناس مردها أن 50% من الشعب السعودي يعيش في 7 مدن فقط، تمثل مدينتان منها فقط (الرياض وجدة) ثلث سكان المملكة. ليست هناك أزمة سكانية في واقع الأمر، والأزمة، إن صح التعبير، هي في تناقص عدد سكان المملكة مع الوقت وليس زيادتهم. المعضلة تخطيطية في المقام الأول وتتعلق بعدم وجود سياسة/استراتيجية سكانية واضحة تتعلق بالنمو أو التوزيع السكاني، فمن جهة تسببت زيادة معدلات الهجرات الداخلية نحو المدن الرئيسية في تكدس المدن وزيادة كثافتها (وصل معدل الهجرة الداخلية في منتصف الثمانينات إلى 24 لكل 1000 شخص)، ومن جهة أخرى تسبب ارتفاع معدلات البطالة في زيادة الشعور بالاختناق الاقتصادي، وكلا الأمرين فاقم من الشعور بوجود أزمة سكانية. لكن واقع الأمر أن سوق العمل يمكنه أن يستوعب أكثر من حجم البطالة القائمة، وهو ما يتضح من زيادة حجم العمالة الأجنبية، ومساحة المملكة ومقوماتها تستوعب أكثر من حجم السكان الحالي (انظر مقال كاتب السطور: أخطاء الطفرة الأولى وأخطاؤنا اليوم. جريدة الوطن بتاريخ 7/10/2012).
التحدي الحقيقي أمام أي زيادة سكانية ليس المساحة أو النمو الاقتصادي وإنما المياه. لقد كانت الجزيرة العربية على مدى تاريخها منطقة طاردة للسكان لا جاذبة لهم، ولذلك شهدت الجزيرة موجات نزوح جماعية لقبائلها نظرا لمحدودية ثروات الأرض وخاصة المياه للحفاظ على نمط مستدام للحياة، ولم ينقلب هذا الأمر إلا بظهور النفط فشهدت الجزيرة العربية لأول مرة في التاريخ موجة هجرة عكسية للباحثين عن العمل، ووفر النفط أسبابا لاستدامة الحياة وأصبحت أرض الجزيرة قابلة لاستيعاب فوائضها السكانية (انظر مقال كاتب هذه السطور: الجزيرة العربية في السياق التاريخي الأوسع. جريدة الوطن بتاريخ 4/8/2013). أتاح النفط تحلية مياه البحر، لكن في واقع الأمر أن مخزون المملكة الاستراتيجي من المياه العذبة يكفيها لمدة 5 أيام فقط في حال توقفت قدرتها على التحلية، لا قدر الله، وهو ما يجعل أي تحد يتعلق بالزيادة السكانية أو الحياة في هذه المنطقة مرهونا بقدرتنا على الحفاظ على استدامة توفير مصادر للمياه العذبة.
وباعتبار أن معضلة المياه لها سياساتها التي تتعامل معها، فمسألة الزيادة السكانية يجب النظر لها من منظور أوسع، من جهة توجد معضلة استيعاب عدد السكان الحالي نتيجة الارتفاع السابق لمعدلات الخصوبة من خلال تعديل التشوهات الاقتصادية والتنموية التي تسببت في الشعور بكثافة السكان، ومن جهة أخرى معضلة تحفيز النمو السكاني لرفع معدلات الخصوبة الحالية للحفاظ على نسبة السكان بل وزيادتها مستقبلا. في واقع الأمر يمكن لعدد السكان أن يزداد في حين تنخفض معدلات الخصوبة وذلك بسبب “القصور الذاتي”inertia، ومن ثم سيستمر نمو السكان لمدة قبل أن تبدأ الموجة بالانحسار بعد مدة ويبدأ متوسط عمر الأجيال في المملكة بالارتفاع ونسبة نمو السكان بالاستقرار بمعدلات ثابتة. وهو ما قد يتعارض مع توجهنا التنموي مستقبلا ويضع ضغوطا على الاقتصاد.
آثار هذا الأمر تظهر اليوم في انخفاض نسبة متوسط المواليد للأسرة والتي تتراوح بين طفلين وثلاثة، وأحد أهم أسباب هذا الأمر هو ارتفاع كلفة الطفل الواحد، فالطفل يكلف اليوم أبويه أكثر من السابق، سواء في كلفة التعليم والصحة والسكن ومصاريف الحياة من غذاء وملابس وانتهاء بمصاريف الزواج. هذه التكلفة التي باتت تشكل عائقا أمام الأسرة السعودية دفعتها مع الوقت لتقليل عدد المواليد. أحد الآثار السلبية لهذا الأمر ستظهر عندما نرى في المستقبل زيادة نسبة كبار السن في المجتمع (أكبر من 65 سنة) حيث تراوحت هذه النسبة تاريخيا عند متوسط 3% من السكان ومن المتوقع أن تصل إلى 20% خلال العقود القادمة، وبالتالي ستزيد نسبة الإعالة لكبار السن dependency ratio من 4% عام 2010 إلى 28% عام 2050.
ما يعنيه هذا الأمر أن آباء المستقبل سيجدون أبناء أقل لإعالتهم والاعتناء بهم حيث عدد الأبناء في العائلة ينخفض، وهو ما سيضع مزيدا من الضغوط الاقتصادية والاجتماعية على المواطن مستقبلا ويزيد من كلفة الحياة عليه، خاصة وأنه ليس في ثقافتنا ما يسمح بفكرة دور رعاية المسنين.
المملكة بحاجة اليوم لسياسة سكانية واضحة، واستراتيجية مستقبلية تحفز من زيادة نسبة السكان لإبقاء معدلات الخصوبة المستقبلية أعلى من معدل الاستبدال، وهو ما يستلزم دعما حكوميا غير مباشرا لإبقاء متوسط العوائل بين 3 و4 أطفال، مع إنشاء برامج تساعد على تكاليف إعانة كبار السن مستقبلا، فمع الوقت سيشيخ المجتمع، وما لم يتحسب الاقتصاد لهذا التطور الطبيعي فإن نعمة السكان الشباب اليوم ستتحول لتحد اقتصادي كبير.
المصدر: الوطن اون لاين