كاتب سعودي
لو أنّ أحدا في التسعينات الميلادية تطرّق إلى الخطاب الديني نقدا أو تصويبا أو تخطئة لأجلبت عليه الخطب والفتاوى التكفيرية بخيْلها ورجلها، ولأصيب الناطق بمقتل. كان الرموز للتيار الديني يتحصّنون بالمدينونية الأخروية التي يروّجونها ويدبّجونها بمحاضراتهم وندواتهم، وفي زعيق خطبهم، وحين أراد مجموعة من العلماء والمفكرين تناول هذه الأرضية التي تنطلق منها تلك الخطابات تم تكفيرهم ونفيهم، وآية ذلك أن المؤلف الفذّ الراحل نصر حامد أبو زيد حين طرح كتابه «نقد الخطاب الديني» عام 1995 على أثره شكّلت لجنة من أساتذة جامعة القاهرة يتزعّمهم عبد الصبور شاهين الذي اتهم في تقريره أبو زيد بالكفر، ومن ثمّ ذهب إلى منفاه في هولندا التي درّس فيها وأقام واستمر في مؤلفاته وضرباته الموجعة والمدوّية.
شكّل الخطاب الديني ودوره وتقصيره ومسؤولياته حديث السعودية تحديدا والمنطقة عموما، خلال الأسبوعين الماضيين، الورطات التي وقع في فخاخها الخطاب الديني ليست قليلة؛ على إحدى الكراسي الموجودة بالحرم المكي والمخصصة بالوعظ والإرشاد وحلّ مسائل المعتمرين والزائرين، والسعاة والطائفين، تمكّن أحد الدعاة من إلقاء خطبة سياسية تتناول تخطئة من أيد النظام الجديد بمصر، ومن دعمه، مؤيّدا نظام التطرف والاستئصال ممثلا بأنموذج محمد مرسي الرئيس المعزول، وحين حُمّل هذا الفيديو على مواقع التواصل الاجتماعي تم تدويره وطرح التساؤل حول الرقابة على مثل هذه الكلمات المسيّسة التي تتدخل بما ليس من اختصاصها أو مسؤوليتها، وحين استقبل الملك الصالح الحكيم عبد الله بن عبد العزيز الفقهاء والمسؤولين بالمؤسسات الدينية، سواء في رئاسة الحرمين الشريفين أو مؤسسة الشؤون الإسلامية أو هيئة كبار العلماء واللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء، قال بحرارة وتألّم: «أنتم في كسل، وفيكم صمت». كلمتان خفيفتان كانتا كافيتين لخضّ وغربلة وتحفيز كل المسؤولين المقصودين.
ثمة مسؤوليات كبرى على المؤسسات الدينية، هناك خمسة وتسعون ألف مسجد وجامع بالسعودية، من بينها خمسون ألف جامع، وعليه فإنه بالأسبوع الواحد تضخّ في المنابر خمسون ألف خطبة معظمها خارج الرقابة أو التصحيح والملاحقة والضبط، حين ألزمت وزارة الشؤون الإسلامية الخطباء بإلقاء الخطب حول جريمة شرورة البشعة ضد رجال الأمن المخلصين رفض البعض هذا التعميم، ومن ثم تصبر الوزارة عليهم باستمرار ويأتي العقاب متأخرا للغاية، ويغيب دور المراقب الذي يحتاج – ربما – في بعض الأحايين إلى مراقب نظرا لعدم الدقة في التوظيف والتأهيل لمثل هذه المسؤولية، وأعلم جيدا أن المراقبين الموظفين في الشؤون الإسلامية معظمهم لا يحمل مؤهلا علميا يمكّنه من نقد الخطيب والانتباه للثغرات في الخطبة أو الأخطاء الفقهية والعلمية والاجتماعية، بل والسياسية، وهذه مسألة أخرى.
أما هيئة كبار العلماء فهي المؤسسة الأهم، التي يقع على عاتقها توعية المجتمع بالرأي الضابط في خضمّ الأحداث المزلزلة، كما فعلت في موضوع الاستعانة بالقوات الحليفة عام 1990 وبمواقفها الصارمة حين شغب بعض المتطرفين في بريدة عام 1994 وكما تفعل دوما في المنعطفات الكبرى والأحداث الجسام، وبعد كلمة الملك حدثت هبّة داخل الهيئة لجعل الموضوع الاجتماعي حاضرا ووضع ممثلا للهيئة في كل مدينة من مدن المملكة لقول الرأي الضابط البعيد عن هياج الحركيين وأباطيلهم وحيلهم وأساليبهم، وأتمنى من الأعضاء التفاعل مع الناس في مواقع التواصل من خلال حساباتٍ معينة، إذ لم أر إلا عضوا واحدا في هيئة كبار العلماء هو الدكتور محمد العيسى على «تويتر»، وهو قليل التفاعل والتواصل، وهذا مفهوم لمشاغله، لكن تبقى أولوية التفكير بهذا المعنى مهمة جدا، لضرب الرموز المتطرفة التي يتبعها من دون وعي عدد من الملايين.
لو تأملنا في اجتماعات مجلس الاتحاد الأوروبي، ومجلس الأمن، ودول الخليج، وقمم العرب الثنائية والمتعددة واللقاءات الدولية، لوجدنا أن معضلة الخطاب الديني المتطرف حاضرة. إن الكثير من الرزايا والآلام التي تعصف بالمنطقة كان يمكن تجنّبها لو أننا بدأنا بالتصحيح لكثيرٍ من المفاهيم مبكّرا من خلال المناهج التعليمية ونظام التعليم والخطب والمواعظ وفتح المجال للنقاش والحوار الحر وتحجيم الرموز المتطرفة وعزلها عن المجتمع. الآن حال كل معتدلٍ الكثير من الارتباك، هناك آلاف المفاهيم الكارثية التي تحتاج إلى تصحيح.
وسوى الروم خلف ظهرك رومُ
فعلى أي جانبيك تميلُ؟
المصدر: الشرق الأوسط
http://classic.aawsat.com/leader.asp?article=784115