لوهلة، يبدو الجدال حول امتلاك أبي بكر البغدادي شرائط الخلافة وكأنه لا ينتمي إلى هذا العالم. والقول ببطلان إعلان الخلافة وتنصيب الخليفة لافتقارهما إلى الشرائط الشرعية يعطي انطباعاً أن المرء لا يقرأ مقالاً في صحيفة اليوم، بل إنه فتح كتاباً في تاريخ القرن الثاني الهجري.
ومدهشة فعلاً كمية الكتابات التي تناولت هذا الجانب من مسألة الخلافة الداعشية وحق البغدادي في تنصيب نفسه من دون اجتماع الشرائط له وفيه. لكن إلى جانب الطبيعة السريالية، إذا جاز التعبير، المتعارضة مع ما بات من بداهات تداول السلطة وانتقالها والاستيلاء عليها ومصادرتها، حتى في هذا الجزء المنكوب من العالم، يتعين النظر إلى السجالات من زاوية أوسع.
قد لا تعني الاقتباسات والاستشهادات من الكتب الدينية وأعمال كتاب القرون الهجرية الأولى والتي ساقها أنصار الخلافة ومعارضوها، لمراقب من خارج النسيج الذي أفرز ظاهرة «داعش» وقبلها «القاعدة» و»النصرة» وما يدخل في بابها، غير انتكاسة إلى الماضي البعيد واختراع تقليد جديد (بالمعنى الذي صاغه المؤرخ اريك هوبزباوم) يتأسس على سردية غير واقعية للتاريخ ومعطياته. أو ربما، دليل إضافي على فشل مشروع الدولة الوطنية وعودة المكوّن القبلي ليتحكم في آليات تكوين السلطة في المشرق.
في الوسع الزعم أن ثمة ما يفيض عن التفسير هذا لظاهرة إعلان الخلافة والجدالات الفقهية – السياسية التي رافقته. إذا ألقينا نظرة على الخلفية الاجتماعية والتعليمية لـ «الخليفة» وسيرته «الجهادية»، تكاد تصفع النظر سمتان شديدتا التناقض. الأولى، العادية البالغة لرجل درس في الأساس تجويد القرآن (وليس الشريعة، وهذه مسألة مهمة في تكوين رجال الدين وأدوارهم اللاحقة) وكان جل اهتمامه لعب كرة القدم في الفناء القريب من المسجد الذي كان يصلي فيه في إحدى ضواحي بغداد. الثانية، درجة العنف الرهيبة التي أظهرها البغدادي في طوره الجهادي حيث يوضع في سجله «نجاحه» في تفجير ستين سيارة مفخخة في العراق في يوم واحد، ما أسفر عن مئتي قتيل من أبناء بلده طبعاً.
التجاور بين العادية المفرطة والعنف الخرافي ما كتب عن جلادي المعتقلات النازية الذين جاء قسم منهم من بيئات صغار الموظفين والعمال وأصحاب المصالح المستقلة وانخرطوا في ماكينة القتل المنهجي النازي. بعد هزيمة ألمانيا في الحرب العالمية الثانية، أفاد هؤلاء في محاضر استجوابهم أنهم ارتكبوا الفظائع كجزء من عمل عادي كُلفوا القيام به.
يتجاهل المتجادلون في توافر شرائط الخلافة من عدمه التفاصيل هذه التي سمحت لرجل كان غفلاً من كل ذكر وخلواً من كل ميزة، أن يتمكن ليس من تفجير ستين سيارة مفخخة في يوم فقط ولكن أن يملك من الجرأة ما افتقر إليه ملوك وسلاطين عرب ومسلمون في الأعوام المئة الماضية، بسبب جسامة موقع الخلافة في الذهن العربي والإسلامي وما تنطوي عليه من مسؤوليات دنيوية ودينية ضخمة.
يقود ذلك إلى رسم صورة جديدة لعالم عربي يكفي العنف العاري فيه ليتسنم سدة الخلافة رجل جاء من العدم أو ما يعادل العدم. وندع جانباً كل المزاح الذي رافق إعلان الخلافة وتنصيب الخليفة وكل الانتقاص من جدية الحدث الذي يستحق ما يتجاوز السخرية وما يزيد عن التعامل الأمني التآمري معه.
ومن أسف، أن الأدوات التي يمكن لقارئ عربي أن يتابع عبرها هذه الظاهرة ويحاول فهمها توجد في بطون كتب عاش مؤلفوها قبل أكثر من ألف عام. عندها، سيجد القارئ نفسه محاطاً بأسئلة عن توافر شرائط الخلافة وتهرب من بين يديه كل الروابط بالزمن الحالي. فهذا خليفتنا وقد رُدّ إلينا.
المصدر: الحياة