كاتبة سعودية
بينما تشتعل الأخبار والصحافة في الشرق الأوسط بمانشيتات حول أوضاع المنطقة، اضطراباتها المزمنة وميليشياتها الإرهابية، ينصرف الناس إلى متنفس مريح وهو كأس العالم. يشجع العرب فريق الجزائر باعتزاز، بينما بعض آخر يشجع الفريق الإيراني، هم الذين في كل الأحوال يبحثون عن نافذة من الفرح والمشتركات. وبين الأخبار أيضا تلمح تقريرا تلفزيونيا على «سي إن إن» لمجموعة من الإيرانيين يشجعون فريقهم، شبان رفقة فتيات تنسدل خصلات شعرهن من بين الوشاح على الوجه المطلي بالمساحيق، يجلسون معا في مقهى عام في طهران، يهتفون مع صراخ المعلق الرياضي بحماسة، بينما مراسل المحطة يقف معلقا على المشهد بعيدا عن ذلك، مشيرا إلى علامات تغير الأوضاع الاجتماعية في هذه البلاد، من خلال صورة هؤلاء الشباب الذين يقاومون سلطة الحكومة الإسلامية الأصولية، مقارنة بنحو ثلاثة عقود منصرمة من القمع الديني الاجتماعي.
يقول رئيس الوزراء البريطاني ديفيد كاميرون في تصريح له مؤخرا تجاه بعض الدعاة المسلمين الذين يعيشون في بريطانيا: حان الوقت لأن نتوقف عن الشعور بالحساسية تجاه مفهوم «البرطنة» Britishness وأن نقول لكل شخص يعيش بيننا ويرفض قبول القانون البريطاني وسلوك الحياة البريطانية بأن ذلك ليس خيارا. قال ذلك في إشارة للجهود التي تبذلها بريطانيا بشكل جاد للحفاظ على الهوية البريطانية الأصيلة وأساسها الوحدة الوطنية على حساب أي شيء آخر قد يحمله البريطانيون من أصول أخرى، كالمسلمين المتشددين مثلا، هم الذين يتمتعون بالجنسية البريطانية بما لها من مزايا وحقوق، بينما ينعزلون تماما ويرفضون الانخراط في المجتمع البريطاني. وكانت هناك مساع حثيثة لتعزيز الوطنية البريطانية التي بدأت تنخفض بين مواطني بريطانيا في السنوات الأخيرة، إلى درجة أنها خصصت لها ميزانية كبيرة تم تأجيلها إثر الأزمة الاقتصادية الأخيرة.
ما يوضح فكرة الحفاظ على الهوية البريطانية، التي تندرج تحتها صفات الشخصية البريطانية الأصلية كسلوكيات مدنية، هو أن المختلفين (عرقيا أو دينيا ونحوهما) مجبرون في ظل الدولة الديمقراطية – الليبرالية على الاندماج سياسيا، بينما تؤسس الدولة لهذا الاندماج. وكل ما عدا الهوية ومتعلقاتها هو اختلاف ثانوي وشخصي ينظمه القانون والعدالة الاجتماعية. والديمقراطية الليبرالية هي ما تسمح للجماعات الإسلاموية بأن تأخذ نصيبها في التأثير الاجتماعي والنصيب السياسي أيضا. وهذا ما حدث إبان الثورات العربية، هي الجماعات التي استغلت ذلك كجسر للسيطرة. فهل الوقت الذي يمر الآن كافٍ فعلا ومواتٍ للدول العربية ليسمح لهذه الثقافة الجديدة بأن تتغلغل في النسيج الفكري محليا؟ ومن بإمكانه أن يمثل الضمير العام لهذه الثقافة مع هذا الكم من التشرذم المفتعل؟
يقدم الإرهاب المؤسلم في الشرق الأوسط في صورتين: إما صورة تمثل العودة للخلافة الإسلامية ضد التغريب، أو صورة مواجهة السلطة الفاسدة، أو كلاهما. وفي كل الأحوال تقدم الجماعات الإرهابية الإرهاب في صورة «أخلاقية»، وبصفتها عقوبة مفترضة عادلة لما قد يحدث في تلك البلدان من فساد سياسي. ربما من المناسب أن أشير هنا إلى رأي الخبير السياسي فرانسيس فوكوياما، في مقال له نشر مؤخرا بجريدة «وول ستريت جورنال»، من أن النظام الوحيد الذي يمكن أن ينافس الديمقراطية الليبرالية في الشرق الأوسط هو ما سماه «نموذج الصين»، الذي يدمج بين الحكومة الاستبدادية والاقتصاد القائم على السوق جزئيا، عوضا عن مستوى عال من الكفاءة التكنوقراطية والتكنولوجية، إلا أنه يرى أن هذا النموذج لا يتسم بالاستدامة! إذن فبعض الاستبداد العادل، وإن كان مؤقتا، مسألة حميدة لتصحيح المسارات.
ما الفرق بين فكر الإنسان العربي وفكر الإنسان الأوروبي، إذا ما قرأنا الأحداث التاريخية؟ هل يختلف التطرف الإسلامي الشيعي والسني الحالي مثلا عن التطرف الكاثوليكي والبروتستانتي ذلك الوقت، حيث الوقود متشابه؟ لم ينجُ بلد أوروبي من اقتتال وحروب طاحنة، البعض منه شلته هذه الأسباب لفترة عن الانخراط في المسار الجديد الذي سلكته رفيقاتها من الدول الأوروبية الأخرى، وبقيت معزولة لفترة. الديمقراطية في أوروبا استغرقت نحو سبعة عقود لتتشكل، والتطرف الديني احتاج قرونا ليخمد حينما كان الدين مصدر «القانون» في أوروبا قبل ثورات 1848. وإذا كانت الكنيسة قد فقدت سلطتها السياسية، فإنها لم تفقد إلى حد ما دورها الروحي والفكري في المجتمعات الأوروبية في وقت لاحق. إذن كيف هي دورة حياة الإسلام السياسي وميليشياته في الشرق الأوسط؟ وما مستقبلها؟
المصدر: الشرق الأوسط