مفكر عربي يقيم في باريس
لا يستطيع المرء أن يتحدث عن كل شيء رآه في الأسبوع المنصرم. لا بد له من الاختيار، من الحذف والإبقاء، من الأساسي والثانوي… إلخ. أعترف بأنني شاهدت على التلفزيون الفرنسي دخول ديغول إلى باريس يوم 26 أغسطس (آب) من عام 1944 محررا. شيء مذهل: ترى أمامك كيف يصنع الرجال العظام التاريخ. يقال غالبا بأن الظروف الاستثنائية هي التي تخلق الشخصيات الاستثنائية، وهذا صحيح إلى حد كبير، لكن الشخصيات الاستثنائية هي التي تخلق الظروف أيضا. ديغول لو لم يكن يتحلى بإرادة حديدية وبكاريزما شخصية هائلة وشجاعة منقطعة النظير، إضافة إلى بعد نظر وحس رؤيوي استكشافي، لما كان ديغول.
هناك عدة مزايا ينبغي أن تجتمع في شخص ما لكي يصبح شخصية استثنائية أسطورية. وهي مزايا يصعب أن تجتمع في شخص واحد. ولذلك نقول بأنه استثنائي. صحيح أن هزيمة فرنسا أمام ألمانيا كانت صاعقة عام 1940، فبحياتهم كلها لم يُذل الفرنسيون في كبريائهم، في أعماق أعماقهم، كما أذلوا عندما دخل هتلر باريس فاتحا، وراح يتبختر بين جنرالاته على جادة أجمل شارع في العالم؛ الشانزليزيه أو أمام برج إيفل. لقد انتقم من الأمة المنافسة، الأمة العدو، وأي انتقام! كل كرامة فرنسا مرغت في الحضيض.. لكن مع ذلك فقد وقف شخص واحد لكي يقول: «لا.. لا أعترف بهذه الهزيمة. لقد خسرنا معركة ولم نخسر الحرب».
وبالفعل، فبعد أربع سنوات وشهرين فقط عاد هو فاتحا لكي يحرر باريس ويستقبله شعبها بالملايين. «آه إنه البحر!»، عبارة صدرت عنه بشكل عفوي وهو ينزل الشانزلزيه بعد أن ألقى نظرة على الجماهير الهادرة التي تهتف باسمه، تستقبله وتحييه.. وأثناء طريقه إلى نوتردام قدس الأقداس الفرنسية توقف أمام تمثالين فقط: كليمنصو ونابليون. وعندما وصل إلى الكنيسة الشهيرة علا التصفيق رغم أنه ممنوع في الكنائس عادة، لكن للظروف الاستثنائية مبررات استثنائية. واندلع الرصاص فجأة لأن باريس لم تكن قد حررت كليا. كانت لا تزال هناك بقايا من القناصة خارج كل سيطرة. وفجأة انحنت الشخصيات أو انبطحت على الأرض لكي تنجو بنفسها.. وحده ديغول ظل واقفا لا يتزعزع. هل يعقل أن ينبطح قائد الأمة تحت الطاولة لكي يحمي نفسه من رصاصة طائشة؟ مستحيل. هذا شيء لا يليق بقائد تاريخي.. يموت ولا ينحني.
ماذا أستنتج من كل ذلك؟ شيئان أو ربما ثلاثة؛ أولها أنه لا يوجد شيء اسمه هزيمة نهائية في التاريخ: يوم لك ويوم عليك. عندما عاد ديغول إلى باريس ظافرا شامخا كان هتلر قد أصبح في الحضيض. لكن هذا لا يحصل بالصدفة، فلولا مقاومة الشعب الفرنسي وتضحياته الجسام، ولولا وجود شخصية تاريخية فوق رأسه تدله على الطريق، لما كان الانتصار. الشعوب تضحي، الشعوب تموت، لكي تحيا!.. لا شيء يجيء مجانا.
وأما الشيء الثاني الذي أستخلصه فهو مهم جدا. إنه يقول لنا ما معناه: كل ظلم فادح، كل باطل فاقع على طريقة هتلر مثلا، حبله قصير. قد ينتصر لفترة ويزمجر ويعربد، لكن نهايته محتومة. سوف تنقلب عليه الظروف ويذهب إلى مزبلة التاريخ. وفي النهاية لا يصح إلا الصحيح. في النهاية ينتصر الحق وينهزم الباطل «إن الباطل كان زهوقا». وهنا أفرق بين البطل السلبي في التاريخ والبطل الإيجابي. لا أحد يشك في أن هتلر كان بطلا، ولكن من أجل الشر لا من أجل الخير على عكس ديغول. وبالتالي فهناك بطل وبطل. والتاريخ مقسوم إلى قسمين؛ أبطال تدمر وأبطال تعمر، أبطال ميالة إلى الشر المحض أي الشر المجاني أو الشر من أجل الشر، وأبطال مفعمة بحب الخير.
وهناك شيء ثالث أستخلصه ولا يقل أهمية، وهو أن الآلام العظام تصنع الشعوب. من رأى على التلفزيون منظر الشعب الفرنسي بكل البؤس والذل والجوع والقهر والذبح والرعب.. يدرك ما أقول. لهذا السبب فأنا متفائل بمستقبل الشعوب العربية على الرغم من كل الوضع المتدهور بل والكارثي المسيطر حاليا. من يستطيع أن يقدر حجم آلام الشعب الفلسطيني البطل وبخاصة بعد معركة غزة الجريحة المنتصرة على العدوان؟ من يستطيع أن يقدر حجم آلام الشعب السوري، أو العراقي؟ لك الله يا عراق! ومع ذلك فأنا واثق من أن هذه الآلام الرهيبة لن تذهب سدى. ولن ينتصر الباطل مهما طغى وبغى. إن له جولة وللحق جولات! سوف تُهزم هذه «الخلافة السوداء» الخارجة من أعماق القرون أو كهوفه المظلمة. ما حل بالإيزيديين والمسيحيين والآخرين من مجازر وتهجير وقتل مجاني سوف يدفع المجرمون ثمنه عاجلا أو آجلا كما حصل لهتلر والنازيين.
يقال بأن ديغول عندما كان يعود في المساء إلى بيته، إلى زوجته وأطفاله، كانوا يشعرون بأنه مكسور من الداخل على الرغم من كل الانتصارات التي حققها والتي جعلت منه رجل فرنسا الأول. كان يقول لهم: «عندما أزور المحافظات وأرى الشعب الفرنسي فقيرا جائعا شبه متسول يكاد قلبي ينزف دما. والشيء الذي يقهرني هو أنني لا أستطيع حل كل مشاكله دفعة واحدة. هناك مناظر بالكاد أستطيع رؤيتها: مناظر النساء والأطفال الذين هدهم الحرمان وأحنى ظهورهم الجوع على مدار السنوات العجاف». لكنه لم يستسلم للواقع المر، وإنما راح ينتهج السياسة الحكيمة وخطط التنمية الصائبة التي أخرجت الشعب الفرنسي من محنته وجعلته في صف الأمم المتطورة خلال أعوام فقط. وهنا تكمن معجزة ديغول. لم يكن بطلا في الحرب فقط وإنما في السلم أيضا! ففرنسا المدمرة تقريبا أعادها معمرة مزدهرة واقفة على قدميها بين الأمم. ثم أنقذ فرنسا مرة أخرى ولكن هذه المرة من نفسها، من شياطينها، من غلاتها ومتطرفيها. عنيت بذلك مشكلة الجزائر الثائرة من أجل حريتها وكرامتها بعد 130 سنة من الاحتلال والاستعمار. هنا أيضا أثبت أنه كان رؤيويا عبقريا!
المصدر: الشرق الأوسط
http://classic.aawsat.com/leader.asp?article=785142