دين أم أعراف؟

آراء

خاص لـ هات بوست:

يحكى أن هرة كانت تقف قرب المصلين عند إقامة الصلاة في كل وقت داخل مسجد ما، حتى ظن أحدهم أن من أحكام إقامة الصلاة هو وجود الهرة.

تذكرت القصة وأنا أمشي في شوارع دمشق وأرى زياً جديداً منتشراً بقوة في أرجائها، فكثير من النساء اعتمدن قبعة “كاسكيت” توضع فوق الحجاب بشكل تمتد حافتها لتحمي الوجه من أشعة الشمس المتقدة في هذا الفصل من السنة، ويمكن للمراقب ملاحظة تزايد انتشار هذا الزي عاماً بعد عام، حيث تتزايد درجات الحرارة بالارتفاع، ومن الطبيعي أن يسعى الناس لإيجاد الحلول الأفضل لاتقاء العوامل الطبيعية.

تخيلوا معي لو أن هذا الزي بقي رائجاً في بلادنا، ربما سيصبح مع الزمن هو الشكل المعتمد للباس المرأة المسلمة، ومن ستخالفه سترتكب معصية، وسيغدو معياراً للتقييم الاجتماعي والأخلاقي.

لا يخلو هذا الكلام من المبالغة، لكن ما جرى عبر التاريخ هو أمر مشابه، ليس في نطاق لباس المرأة فقط، وإنما في عموم الشأن الديني، فأغلب الأمور التي تكرست في العقل الجمعي “المسلم” عموماً لا أصل ديني لها، وإنما هي أعراف مكان وزمان معينين، أو هي فتاوى لمسائل خاصة، أو أنها تصرفات عفوية لإمام مسجد رعى الهرة، أو لفتاة ارتأت اتقاء حر الشمس بوضع خمار، غدت جميعها أصل الدين، وانشغل الناس بها، لتصبح حياتنا اليومية كتلة من المحرمات، لا يكاد المسموح ينفذ من خلالها، فإن وجد طريقاً فسيكون للرجال دوناً عن النساء، فالنساء “حطب جهنم” وأصل الشرور كلها.

في مجتمعاتنا تغدو المئذنة من أساس الجامع، حتى لو وجد مكبر صوت ينشر الأذان في المحيط، وعدم وجودها حرام، وتصبح شاهدة القبر من أساس إيمان من في داخله وأهله، وقبر بلا شاهدة هو لا شك تشبه بالكفار يدل على كفر صاحبه، وقس على ذلك أموراً أصغر وأكبر لا تخطر على البال، ويمكن للعقل والمنطق أن يحل معضلتها إن وجدت، لكن لا مكان لهما هنا، فالفتوى أهم، والمفتون يقتاتون من وراء جهل الناس ورعبهم من عذاب الله، “والمؤمنون” يرزحون تحت شعور دائم بالذنب، فهم مقصرون أمام اللائحة التي لا تنتهي من “الحرام” الذي يرتكبونه في حياتهم، وصورة الله في قلوبهم تتصدرها صفات المنتقم الجبار، بدل الغفور الرحيم الذي سيغفر الذنوب جميعا، ورحمته التي وسعت كل شيء مقابل عذابه المحدود المخصص للمجرمين.

والمفارقة تكمن في أنه كلما زادت الممنوعات كلما صعب الالتزام بها، ورب العالمين هو أدرى بخلقه سبحانه، لذلك نرى المحرمات في كتاب الله قليلة جداً، ويمكن للإنسان العادي ألا يقربها، إن تحلى بالأخلاق الحميدة، والقاعدة الأساسية للحساب في اليوم الآخر هي العمل الصالح، إلا أن الثقافة الموروثة راكمت فوق الإسلام طبقات من الإصر والأغلال تجاوزت ما كانت عليه الرسالات السابقة، بدل أن تخفف منها {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} (الأعراف 157)، وبدل أن تكون الرسالة المحمدية رسالة يسر أضحت بفضل “رجال الدين” رسالة عسر.

إلا أن الإنصاف يقتضي ألا نحمل الوزر كله لتلك الطبقة، فكل نفس بما كسبت رهينة، والتنزيل الحكيم كتاب موجه للناس جميعاً مباشرة دونما وسطاء، ومن يقرأه سيمر على “أفلا يعقلون” و “أفلا يتدبرون” و “لعلهم يفقهون”، و”لعلهم يتفكرون”، والله تعالى ميزنا عن مخلوقاته بهذا العقل لنعقل ونتدبر ونفقه ونتفكر ونعلم. فهل لنا أن نستخدمه لنميز الخبيث من الطيب، ونبتعد بالتالي عن الخبائث ونقبل على الطيبات؟ هل لنا أن ندرك ما يفيدنا ويفيد غيرنا مما هو ضار ومؤذٍ، ومن ثم نعيد الإسلام لبساطته دونما عقد وشوائب متسأنسين بأننا أعلم بشؤون دنيانا ممن سبقونا؟

أيضاً ثمة أمر بالغ الأهمية، هو التمييز ما بين الأعراف والدين، فمخالفة الأولى قد تزعج المجتمع، لكنها ليست حرام بالضرورة، والعرف يتغير وفق الظروف الزمانية والمكانية، والمعروف ما تعارف المجتمع على قبوله، والمنكر ما استنكره، ولا علاقة للأمرين بالحلال والحرام، فما حصل عبر قرون أننا كرسنا عادات المجتمعات بحيث اختلط علينا الأمر فمزجنا العرف بالدين، حتى الجرائم التي ترتكب باسم الشرف نسبت للدين، إضافة لكل عادات الزواج والطلاق وبيت الطاعة وما إلى ذلك، لا سيما كل ما يصب في اضطهاد المرأة، واليوم أغلب الناس عموماً والنساء خصوصاً يصدقون أن الله أمر بظلمهن، حاشاه عما يصفون، زد عليها كم هائل من ترهات لا شأن لها بالإسلام، تدق أسافين من الجهل والتخلف في حاضرنا.

قد يكون الطريق طويلاً لتحطيم القوالب التي سكبت فوق جوهر ديننا، إلا أن الواجب يحتم علينا قطعه.