رحل الشاعر عبدالرحمن الأبنودي أمس عن 77 عاماً، بعد صراعٍ مع المرض، وعقب جراحة لإزالة تجمع دموي في الدماغ، وووري في مدينة الإسماعيلية، التي اختارها للحياة والممات، مفضلاً إياها على القاهرة بصخبها وضجيجها الذي خبره طويلاً، على رغم اعتزازه بمسقط رأسه «أبنود» (قنا جنوب مصر) الذي حصل منه على كنيته، وعلى معين لا ينضب من الحكايات والذكريات التي صقلته شاعراً ومثقفاً.
ابن شيخ أزهري تجاوز المحافظة العائلية ليبني شخصيته من مزيج مقاتل ومبدع، وكان صاحب قرار في الحياة والشعر، تلمس في قصائده الإحساس المصري بالحزن والحنين، وفرض أسلوبه على الذائقة المصرية منذ ديوانه «جوابات حراجي القط» العامل في بناء السد العالي إلى زوجته فاطمة. هذا الديوان الذي نبه الرأي العام في مصر إلى «عامية» جديدة تلتزم الكشف عن الغربة في الوطن والكفاح في سبيل قضاياه الكبرى في الوقت ذاته، كان افتتاحية مشوار الشاعر في سبيل انتزاع اعتراف الثقافة الرسمية في مصر بشعر العامية، حتى كان الأبنودي أول من حصل من شعراء العامية على جائزة الدولة التقديرية في عام 2001.
قصائده الوطنية لفتت الأنظار، بخلاف تلك العاطفية، التي غناها عبد الحليم حافظ وفايزة أحمد ونجاة الصغيرة ووردة وشادية وصباح، وأخيراً محمد منير، وقبل هؤلاء جميعاً المطرب الشعبي محمد رشدي الذي كان الأبنودي يحمل له تقديراً خاصاً (للأبنودي أكثر من 600 أغنية).
هو ابن الفترة الناصرية بامتياز. وارتبط بمعاركها، من السد العالي إلى النكسة فحرب الاستنزاف ثم نصر أكتوبر، لكن ذلك لم يعفه من الاعتقال في عهد جمال عبدالناصر، إذ أدخل سجن القلعة الشهير (الزنزانة الرقم 21) لبضعة أسابيع مع مجموعة متهمة بالشيوعية (1966)، وهو استقال لاحقاً من «حزب التجمع اليساري» (عام 1990) بعد الأوبريت الشهير الذي كتبه ضد غزو صدام حسين الكويت.
وعلى رغم الاعتقال بقي الأبنودي نصيراً للمشروع الناصري ضد مشاريع أنور السادات وحسني مبارك وأيضاً محمد مرسي، ما جعله يندفع بقوة في تأييد النظام الجديد برئاسة عبدالفتاح السيسي.
لم يكمل تعليمه في البداية لكنه عاد إلى التعلم ليحصل على ليسانس في اللغة العربية من كلية الآداب في جامعة القاهرة. تزوج من الكاتبة ومخرجة الأفلام التسجيلية عطيات الأبنودي، وبعد انفصالهما ارتبط بالإعلامية نهال كمال في الثمانينات وأنجب ابنتيه آية ونور.
كتبت عطيات الأبنودي مذكراتها في عنوان «أيام لم تكن معه» أوردت فيها رسائله إليها من السجن، فهدد بمقاضاتها ثم عدل عن ذلك. وقد حكت عطيات قصة كفاحهما المشترك من الصعيد إلى القاهرة وزمالتهما للقاص الراحل يحيى الطاهر عبدالله، وهي اعتمدت اسم الأبنودي على غير عادة الزيجات في مصر.
اعتبر نفسه في قمة السعادة عندما أكمل تسجيل «السيرة الهلالية» من رواتها في مصر وتونس، واختبر إحساس الناس بها وبأداء زعيم المنشدين جابر أبو حسين. وكان يرافق رواة السيرة إلى مدن عدة، وإلى بيت السحيمي في حي الجمالية وسط القاهرة في شهر رمضان لعدة أعوام، فيجذب جمهوراً جديداً لم يكن متوقعاً.
أما النخبة القارئة فقد احتفلت بأعماله «الموت على الأسفلت» المكتوبة لناجي العلي و «أيامي الحلوة» (سيرة ذاتية) و «أحزاني العادية» و «يامنة» و «غنا الغلابة» عن أغاني القرية الشفوية التي جمعها بنفسه، وأخيراً بروايته «قنديلة» التي نشرها على حلقات في «الأهرام» قبل رحيله، وكان يعتزم نشرها في كتاب بعد إعادة كتابة بعض فقراتها.