تنساب السيارة البيضاء الصغيرة على الإسفلت القديم بين حقول الريف الفرنسي بحثاً عن بلدة دولون الصغيرة في منطقة النورماندي، حيث يعيش البروفسور رشدي راشد، الذي أرسل فرانسواز زوجته لتنتظرنا على الطريق العام للقرية، فقد كان الفيلسوف (المصري / الفرنسي) مدركاً صعوبة العثور على بيته التاريخي في هذه المنطقة النائية، وهو يمضي أيامه بهدوء بين الكتب الكثيرة التي تحتل جدران غرف الجلوس والطعام وصالة الاستقبال.
تقودنا فرانسواز الفرنسية إلى بيتها الجميل المشيد على تلة تحيطها أشجار معمرة، وبأحجاره البيضاء وسقفه القرميدي الأحمر بدا بيتاً شبيهاً بأحد بيوت الروايات أو الأفلام، وعلى بوابته وقف الفائز بجائزتي: «الشيخ زايد للكتاب» و«سلطان بن علي العويس الثقافية»، البروفسور رشدي راشد، مرحباً بناً بتواضع العلماء قبل أن يسألنا إن كنا نود ترك معاطفنا على المشجب في الممر، ثم قادنا نحو غرفة دافئة حيث دار حوار ثقافي/ فلسفي.
فزت بجائزتين مرموقتين في العام ذاته، هل أنت وافر الحظ؟
ذات يوم، قال لي أحد العلماء الأصدقاء «أحتاج نبذة عنك». قلت له تستطيع أن تجد كل شيء عني على شبكة، يومها شككت بوجود شيء ما في الأفق، ثم قرأت خبر فوزي بجائزة الشيخ زايد للكتاب في حقل الثقافة العربية في اللغات الأخرى، في الدورة العاشرة 2016، وذلك عن كتاب «الزوايا والمقدار» باللغة الفرنسية والعربية. ومن منشورات دار دي غرويتير برلين، وكنت أعتقد ان الجائزة لكتاب آخر عنوانه «من الخوارزمي إلى ديكارت»، لأن هذا الكتاب صعب في جميع المجالات.
بعد هذه السنوات من العمل وأنت في هذه العمر، كيف تصف لنا شعورك عند تلقيك خبر الفوز بكل من الجائزتين؟
حصلت على العديد من الجوائز العالمية، ولكن يسرني حصولي على جائزة عربية لعدة أسباب، أولها قومي يعني أنني موجود عربياً غير مهمل تماماً، والثاني أنه هناك أناس في المنطقة العربية ممكن أن يقدروا هكذا أعمال، وهذا يعطي الكثير من الأمل وممكن أن يشجع آخرين على سلوك هذه الطريق، هذا من ناحية.
ومن ناحية أخرى أنا نشط إدارياً وعلمياً. إذ اشتركت في تأسيس معهد حلب مع يوسف الحسن، كما حاولت إقناع كل المؤسسات العربية بأن تعمل على إنشاء معاهد لتاريخ وفلسفة العلوم وهذا أبرز أحلامي.. لكن للأسف لم أنجح. إن تكريمي بهاتين الجائزتين من قبل دولة الإمارات العربية المتحدة، تشجيع وحافز مهم لي نحو مزيد من العطاء والإبداع.. وكذا البحث المعمق في تراثنا وقيم ومكانة حضارتنا العربية والإسلامية. وهذا طبعاً، ليس بغريب على هذه الدولة المعطاء، التي تدعم العلماء والبحاثة، في عالمنا العربي وفي العالم أجمع.
لو كان الأمر يعود إليك، هل كنت رشحت كتاب «الخوارزمي» لنيل جائزة «الشيخ زايد للكتاب» ؟
بالعكس أنا سعيد أن كتابي حصل على الجائزة، لأنه أصعب.
أتعتقد أن كتاب «الزوايا والمقدار» يمكن أن يكون له وقع أفضل على القراء العرب المهتمين بهذا النوع من الكتب؟
كتاب «الخوارزمي» ممكن أن يعلم أشياء غير موجودة في كتابي الذي هو ربط الفلسفة بالرياضيات أما الآخر فلا يربط الفلسفة بالرياضيات، وهو مجرد تاريخ رياضيات ويحتوي فصلاً صغيراً عن فلسفة الرياضيات. ولكن كتابي الفائز يبحث في ربط الفلسفة بالرياضيات من الداخل.
الفلسفة الرياضية
يتم التعريف بعملك بأنه من نوعية الكتب التي تكتبها لتساعد في حل المسائل الرياضية التي تقف عند درجة معينة فتنتقل إلى الفلسفة، كيف يمكن للفلسفة أن تساعد في حل معضلة رياضية؟
أحياناً، التقنيات الرياضية الموجودة لا يمكن أن تحل المشاكل الرياضية، لذلك لم يكن أمام الرياضيين الكبار سوى التوجه إلى الفلسفة الرياضية من الداخل لمحاولة التقدم، أي أنهم لم يحلوا المشكلة ولكن ألقوا عليها الضوء من خلال هذه الفلسفة، وهذا تم ويتم الآن، وحتى هذه اللحظة توجد مشاكل من هذا النوع وتتم معالجتها بهذه الطريقة.
هل ساعد كتابك «الزوايا والمقدار» في حل هذه المعضلة؟
الزاوية هي مقدار تطبق عليه كل معايير المقادير التي هي كل العمليات الرياضية المطبقة على المقادير، مثلاً إقليدس برهن أن أكبر زاوية هي الزاوية المنفرجة وأصغر زاوية هي التي تقع بين المماس والمحيط. ولكن نحن لا نعرف ما هو مقدار هذه الزاوية. حتى هذه اللحظة، المقادير هي المقادير التي وضعها أرخميدس والتي نعرفها جميعا ونعمل وفقا لها. ولكن ظهرت هندسة جديدة وهي الهندسة غير الأرخميديسية ونظريات جديدة في الرياضيات. فكان يجب انتظار هذا الحل، ثم حاول الفلاسفة تفسير هذه الزاوية وكتبوا العديد من القراءات حولها، مثل: ابن سينا، وهذه المشكلة كانت إحدى المشكلات التي تؤرق العلماء، وأنا كتبت عنها 800 صفحة.
أي عام صدرت هذه الصفحات؟
منذ سنتين. وهو كتاب مطبوع ومنشور في ألمانيا في دار نشر ديغروتير، وصدر باللغة الفرنسية وتوجد نصوص عربية محققة داخله.
فلسفة عربية
العلاقة التاريخية بين العلماء والفلاسفة كانت جدلية. هل تعتقد أنه كان هنالك نوع من التكاتف بينهم لحل القضايا الرياضية؟
برأيي، هنالك قسم كبير من الفلسفة لا يمكن فهمه إلا من خلال الرياضيات، والعكس صحيح إلى حد ما.. ومن خلال كتاباتي حاولت إثبات أنه توجد فلسفة للرياضيات باللغة العربية، لأن الفلسفة العربية فيها جزء مهم من فلسفة الرياضيات.
هل هناك فلسفة عربية فعلاً. أم هي نسخة معربة من الفلسفة الغربية؟
طبعاً هناك فلسفة عربية وجدت لمناقشة المسائل التي كانت موجودة، مثلاً لا يمكن فهم ابن سينا بدون معرفة المعتزلة لأنه يأخذ منهم الكثير بشكل مغلف ويعطي نظريات جديدة، ولا يمكن أن نفهم ديكارت من دون ابن سينا.
مرحلة الصمت
أنت مقيم في فرنسا منذ منتصف خمسينيات القرن الماضي. كيف تنظر إلى الفلاسفة العرب في الفترة الحالية؟ بمعنى آخر: هل هنالك حالياً فلاسفة عرب؟
حالياً لا يوجد أحد، على الرغم من وجود فلاسفة عرب عظماء في تاريخ الفلسفة، مثل: عبد الرحمن بدوي وإبراهيم مدكور.
الأسماء التي تذكرها تعود إلى فترات سابقة، هل تعتقد أنه في الفترة الحالية لا توجد أسماء تعمل وتنتج. وهل انتقلنا من مرحلة الفلسفة التي تطرح القضايا وتجيب عنها إلى مرحلة الصمت؟
الفلسفة موجودة في أي تكوين مهني ويجب تكوين الأشخاص مهنيا قبل كل شيء، لكن ما حدث أنه أخذت مسائل ايديولوجية اعتبرت أساسية وليست فلسفية، وأنا لا أقلل من أهميتها إطلاقا. في بداية القرن الماضي، تكلم كثيرون عن الحداثة والتقليد، مثل: طه حسين ومحمود شاكر وآخرون. وأصبحت العملية تكراراً بأسلوب آخر لا يرقى إلى أسلوب الأوائل الذين كانوا متقدمين ومتمكنين مهنياً، عكس ما هي الحال اليوم لمن يعمل في مجال الفلسفة فهم ليسوا متمكنين.
نهضات مجهضة
لماذا ليس هناك فلاسفة؟
لعدة أسباب، منها: إجهاض كل النهضات. النهضة الأولى في نهاية القرن التاسع عشر أجهضت، ومحاولة النهضة الثانية في العشرينيات من القرن نفسه، أجهضت وفي الفترة الناصرية في منتصف الخمسينيات من القرن العشرين، كانت هنالك محاولة، وأيضا تم إجهاضها لأسباب اجتماعية تتعلق بكل بلد على حدة، مثل زيادة عدد السكان والتعليم، وأشياء كثيرة من هذا النوع.
إذاً، أنت تقول إن تدهور التعليم هو من أهم أسباب المشكلة؟
أنا أتحدث عن مصر، وكل بلد عربي حالة خاصة، مثلاً في تونس كان التعليم أفضل قليلا في الفترة الأخيرة. ولكن هو شبه فرنسي والشيء ذاته في المغرب.
ما دور الأيديولوجية الدينية (التطرف) في عملية الكبح المعرفي في العالم العربي؟
سؤال مهم لأن الأيديولوجية الدينية المتطرفة غطت على كل شيء، حيث أصبحت مصدر رزق في الدرجة الأولى، وثانيا مصدر بلادة لأنه لا يوجد تفكير، وثالثا باتت حلاً سهلاً للأمور، فغطت على كل شيء.
ستون كتاباً
هل جربت الكتابة خارج نطاق الفلسفة وعلومها، في الجانب الإبداعي مثلاً؟
الحياة قصيرة جداً. وإذا كنت تريد أن تقوم بعمل جاد يجب أن تأخذ الوقت الكافي لتأسيسه وإنجاحه، أنا نشرت حوالي 60 كتاباً، أغلبها في ميادين جديدة لم تطرح، ثم أنا أكتب بلغة ليست لغتي الأم وهي الفرنسية، كما أنني أكتب في مجتمع ما. وأنا لا أقصد هنا المجتمع الفرنسي بل المجتمع العلمي العالمي، ولم يشجعني أحد أن أكتب في حقول أخرى.
لو خيرت أن تقرأ رواية، لمن تختار القراءة؟
كنت أقرا غالباً لنجيب محفوظ. ومن بعده قرأت لصنع الله إبراهيم فلديه أسلوب مميز في الكتابة. كما قرأت لجمال الغيطاني.
نجاحات متواصلة وبصمات مهمة
رشدي راشد. عالم رياضيات مصري، وفيلسوف ومؤرخ. من مواليد عام 1936. يعيش في فرنسا منذ 1956. حقق كتب علماء العرب الرياضيين وترجم المخطوطات العربية إلى الفرنسية وشرحها تاريخياً وفلسفياً ورياضياً. وعلق عليها.
وأعاد إحياء تراث ابن الهيثم والخوارزمي والكِندي وعمر الخيام والسموأل، وقدم عنهم حقائق تاريخية لم تكن معروفة من قبل. حصل على البكالوريوس في الفلسفة من جامعة القاهرة، والبكالوريوس في الرياضيات ودكتوراه الدولة في تاريخ الرياضيات وتطبيقاتها من جامعة باريس.
وعُيِّن رشدي راشد باحثاً في المركز القومي للبحث العلمي في باريس، كذلك أصبح مديراً للأبحاث من الطبقة الممتازة وأدار وحدة الابستيمولوجيا وتاريخ العلوم الدقيقة وقسم الدكتوراه في فلسفة العلوم وتاريخها. كما شغل مجموعة من المسؤوليات في جامعات وأكاديميات ومراكز بحوث بارزة في العالم. وحصل على جوائز وميداليات كثيرة.
الزوايا والمقدار
تعود أهمية كتاب «الزوايا والمقدار»، إلى أنه يعيد النظر في تاريخ الرياضيات والفلسفة ويدرس الزوايا والمقدار، لا سيّما مسألة الزاوية المماسّة في علاقة الرياضيّات بالفلسفة، حين لا يجد الرياضي جواباً عن مسألة، فيبحث عن حلول لها في الفلسفة. وتعتمد إعادة النظر هذه على عدد كبير من المخطوطات، لم تنشر من قبل، يجدها القارئ مثبّتة في أصولها العربيّة، ومترجمة إلى اللّغة الفرنسيّة.
المصدر: البيان