رفرفة

آراء

خاص لـ هات بوست:

     سمعتُ بكتاب “بدلة الغوص والفراشة” قبل بضع سنوات، وعلى الرغم من إغراء كونه مكتوبًا برمش العين اليسرى، إلا أنني تجنّبت قراءته، لأن كلمة “بدلة غوص” تستثير فيّ حالة فقدٍ خاصة .. فمنذ غياب أخي، بطل الإمارات وآسيا في الغوص الحر، بقيتُ أتجنب حتى النقطة فوق حرف الغين.

لكن كما أن لكل أجلٍ كتاب، يبدو أن لكل كتابٍ أجل، وقد آن أوان هذه السيرة الذاتية الفريدة، كباكورة لقراءات “قنديل الأدب”، نادي القراءة الفائق البهاء، التابع لدائرة الثقافة والسياحة، والذي سرّني قبول دعوته الأنيقة، المتضمنة كل مرة لقاءً في أحد المتاحف أو المعالم السياحية البارزة في عاصمتنا الجميلة أبوظبي.

نعود للكتاب .. لغة السرد، أسلوبها، دهاليزها ومتاهاتها، كمّ الذكاء الذي كُتبت به، غزارة المعلومات، يقظة التفاصيل، وحش الدعابة العالي، بل سأقول والتفاؤل والرغبة في الحياة أيضًا.

فبالنسبة لشخص مثل جان دومينيك بوبي، صحفي وكاتب ورئيس تحرير مجلة شهيرة في أجواء عاصمة النور باريس، أن يجد نفسه وهو في أوائل الأربعينات ضحية جلطة دماغية حادة، تدخله في غيبوبة، يستفيق منها على حالة نادرة تُعرف بـ “متلازمة المنحبس” جسده مشلول بالكامل وهو ما عبر عنه بـ “بدلة الغوص” الثقيلة، بينما روحه ووعيه لا يزالان في أوج حضورهما، وقد صوّرهما بـ”الفراشة” التي ترفرف بعيدًا، وتحظّ في أماكن وذكريات وتفاصيل لا تُحصى.

كل ذلك، ولا يبدو يائسًا أو مكتئبًا، ولا إشارة لرغبة في إنهاء حياته على الإطلاق. بل نجده يقول: حاليًا سأكون أسعد الرجال عندما أتوصل، وعلى نحوٍ لائق، إلى بلع فائض اللعاب الطافح به فمي طوال الوقت.”

يا الله! هذا الفعل التلقائي الذي لا ينتبه له أحد، ولا يرى أنه يستحق الكثير من الحمد والشكر والامتنان.

وأيُّ حس دعابة وسخرية تمتع به، وهو يصف ذاك الوجه الذي عكر صفو خلوته بتمثال أوجيني! وجه غريب انعكس على الواجهة الزجاجية؛ فمّ ملتوٍ، أنفٌ مدعوج، شعرٌ منكوش، نظرةٌ طافحة بالفزع. لزمه دقيقة من تثبيت بؤبؤه على ذلك الشيء القبيح ليدرك، بكل بساطة … أنه هو! وتنتابه هستيريا ضحكٍ على هيئة خرخشات.

كل تفصيل في هذا الكتاب هو غرزة نافرة في نسيج الإرادة الحرة، والذاكرة المتوقدة، والحياة ذاتها بأبسط مفرداتها. ختمه بتساؤلٍ أحسبه مشروعًا: هل هناك في هذا الفضاء مفاتيح لأفتح بذلة غوصي؟ خط مترو دون محطة وصول؟ عملة قوية بما يكفي لأشتري حريتي من جديد؟ يجب أن أبحث في مكان آخر.”

ورغم فارق التشبيه، تذكرتُ أثناء القراءة تلك الأيام المدرسية البعيدة، عندما تحتل الحصةَ الأخيرة مدرّسةُ احتياط، ونحن عزّلٌ بلا أوراق، ولا ألوان، ولا قصة ساحرة من المكتبة الخضراء .. تقول قبل أن تجلس، وهي تلوح بإصبع السبابة: ولا نفس!”

والطفلة التي كنثها، تأخذ كل معنى بحرفيته .. جيد أن أبقى، مع ذلك، على قيد الحياة؛ حبيسة بدلة غوصٍ ثقيلة، ووعيي الطفل يرفرف بعيدًا مثل فراشة، أنظر من نافذة الفصل إلى الخارج، لا شيء سوى كثبان رملية تذكّر بصحراء الربع الخالي.

أطيل النظر … لو أن ديناصورًا ضخمًا، أو وحشًا، أو رجلًا آليًّا يحرك السكون بثقل خطاه، أكاد أسمع وقع أقدامه يزلزل الأرض، ولشدة الملل، لا تبدو لي الفكرة مخيفة بقدر ما هي مثيرة ومبهجة. سنفر من بؤس المكان، ونتنفس ملء صدورنا حرية.