يشكل شهر رمضان بالنسبة لنا، نحن المسلمين المؤمنين، موسم له طابع خاص، يختلط فيه الاجتماعي مع الديني، حتى يطغى الأول على الثاني لدى معظمنا، ابتداءً من تبادل التهاني، إلى تبادل قوائم الطعام، إلى تبادل مواعيد المسلسلات، إلى تبادل الدعوات على الإفطار والسحور، ولا يمكننا نكران ما لهذا المهرجان من نكهة مميزة، تكاد تضاهي ما ننعم به من أطايب تصاحب هذا الشهر، حتى يخيل للمراقب أنه شهر الطعام لا شهر الصوم، ويفهم من ثم سر التحسر عليه عند وداعه.
وفي خضم ضغط الأيام العادية، وما يعتريها من وباء تارة وحروب تارة أخرى، يصبح الترفيه مطلوباً لنبتعد قليلاً عن التوتر، لولا أن الكثيرين في بلداننا يعيشون تحت خط الفقر، ولا يكادون أن يحصلوا على قوت يومهم، والأهم من ذلك أن المناسبة ليس المقصود منها الترفيه والتسلية، وإنما على العكس تماماً، هي علاج روحي لكن عبر التقرب إلى الله من خلال الزهد وترويض النفس لتسمو على الغرائز وتسيطر عليها، ولذلك وعدنا عز وجل بالأجر والثواب على الإلتزام بها، بما تحمله من مشقة وعناء، وإلا لما جعل من الصيام عقوبة، فداء أو كفارة لمخالفات عدة.
لكن ما حصل، ولا يمكنني التعميم هنا، إنما في أغلب الأحوال، أننا تربينا على اعتبار الصيام واجب، نؤديه كأي واجب اجتماعي، دون أن يؤدى الغرض منه، فيزيد الاستهلاك وكأننا خارجين من مجاعة، ويقل الإنتاج كما لو كنا مرضى جماعياً، ويتعالى مقياس التوتر والغضب، ويصبح من الطبيعي أن يسب الصائم ويشتم، فهو ممتنع عن القهوة وعلى الناس تحمل النتائج، أو أنه سينام من الفجر إلى الظهر، فيقيم الصلوات ثم ينام إلى المغرب، موعد الآذان وبدء المسلسلات، وهكذا.
أما غير “المسلمين” فعليهم مراعاتنا، واحترام مشاعرنا، وإلا سيحملون سيئاتنا، فيجب ألا يرى أحدنا طعاماً وإلا سيشتهي، وعلى الناس دفع ضريبة صيامنا، ونحن سننال الأجر في الآخرة.
وباعتبار الصيام واجب إجتماعي، يصبح من الطبيعي تدخل الناس في علاقتك مع الله، فقد يحصل أن تفطر وتدفع فدية، لكنك لن تتجرأ على الإفصاح أمام الناس عن ذلك، فأنت تخافهم أكثر مما تخاف الله، ولك كل الحق، فالله رحيم، وهم لا، وهو سبحانه وتعالى من جعل مع العسر يسر، وهو من أتاح لك تلك الإمكانية مع تذكيرك بأن الصوم خيرلك، إنما تقييم المجتمع سيكون بناءً على تمظهرك الديني، ويصبح الكذب والنفاق وصفة مجربة فائقة السهولة في حال كهذه.
ماذا لو صمنا رمضان كما يصوم أحدنا النوافل، بإنتاج مستمر، ودون مبالغة بمتابعة المسلسلات وبرامج الطبخ، وطعام غير عادي؟ ماذا لو روضنا أنفسنا على مزيد من العمل الصالح، أو أقل من عمل غير صالح، فبر بالوالدين وإنفاق قدر الاستطاعة وقسط لليتامى، ولا كذب ولا غش ولا غيبة ولا نميمة، ولا قول زور ولا تقول على الله وعلى رسوله، واحترام حرية الآخرين بكل معنى الكلمة، سواء بالمعتقد أم بالرأي أم بالتصرف، ومزيد من تدبر القرآن وتبصر في خلقه، بتعلم ومعرفة، أي بمنح رمضان ما يستحقه من عبادة، ومن ثم تربية أبنائنا على معنى الصيام بكونه ركن أساسي في الإيمان برسالة محمد (ص)، من بين أركان أربعة تشكل علاقتنا الخاصة مع الله، يفترض أ داءها طواعية دونما تذمر ولا تململ، ولا نستحق عليها مكآفآت من عباد الله، ولا ترفيه ولا تسلية، وإنما تعنينا نحن وسننال عليها أجرنا من الله تعالى، والأولى أن ترافق بعمل صالح دائم سنعاقب إن لم نلتزم به طيلة حياتنا.
ولأن الدعوات تتزايد يوماً بعد يوم لإعادة الأشهر الهجرية القمرية متوافقة مع الأشهر الشمسية، ومن ثم يأتي شهر رمضان في الشهر التاسع من كل عام، بحيث يكون النهار مساوياً لليل في كل أنحاء الكرة الأرضية، أي عدد ساعات الصيام واحدة لكل الناس أينما كانوا، فبإمكاننا إن كان لا بد من المهرجان، أن نحدد شهراً في السنة للمسلسلات والمسابقات والولائم، ونترك رمضان ليكون شهر الزهد والتقشف، وربما نتقاسم فيه طعامنا مع البائس الفقير، فنحقق أكبر قدر من المساواة.
بكل الأحوال، بارك الله طاعتنا وطاعتكم، ورمضان كريم.