لن أدعي أني تابعت ما عرض على الشاشات في رمضان، فذاك أمر فوق الطاقة في ظل هذا الهدير الشديد من المسلسلات والبرامج التي تزاحم بعضها البعض، وتضع المشاهد في حيرة، يلجأ معها إلى استخدام ما أمدتنا به التكنولوجيا الحديثة للمشاهدة، وما يطلق عليه بالإعلام الجديد، الذي يتيح لك قدراً من المتابعة بين حين وآخر، وحتماً ستتوقف عند بعضها، إما مبهوراً وإما مصدوماً، وهو ما حدث معي خلال متابعة نوعين من البرامج، أولهما أصابني بصدمة بمعناها الحقيقي، ذلك البرنامج الذي يلعب صاحبه بالنار، واختار له الاسم «رامز يلعب بالنار»، تلك النار التي تطاير لهيبها حتى أصاب بيوت المشاهدين، حين يطل عليهم كل مساء، ورغم أن البرنامج يدخل ضمن البرامج الترفيهية التي تهدف إلى تسلية المشاهد والتسرية عنه، باعتباره «كاميرا خفية»، إلا أنه في تقديري، يعتبر من أكثرها فجاجة وسطحية، ولم تثر الضحك أو الاستغراب، بقدر ما أثارت الاستهجان والتساؤلات حول الهدف من هذه النوعية من البرامج التي جعلت من ضيف البرنامج مادة لسخرية مقدمه، من وزنه أو ملبسه أو طريقة مشيته أو تسريحة شعره أو أسلوبه في الحديث، أو حتى جلسته للحوار، رغم أن ذلك لا يمكن أن يسعد المشاهد، لأن كل فرد من الجمهور يضع نفسه دائماً مكان الضيف.
إنني أفهم أن برامج الكاميرا الخفية التي نشاهدها في العالم كله، هدفها رسم الابتسامة على الشفاه، دون تعريض المشتركين وحياتهم للخطر، وهو ما يحدث في البرنامج، كذلك، فإن تكرار نفس الفكرة على مدار شهر بنفس الأسلوب، وبنفس الشتائم التي يصبها المقدم على ضيوفه، فإنها تصيب المشاهد بالملل، بعد حلقة أو اثنتين، هذا رغم الإنتاج السخي، والذي كان يمكن استثماره في نوعية أرقى وألطف من تلك التي كانت تصيبنا بنوبات من الضحك الجميل الراقي، البعيد عن الإسفاف والابتذال والخوف من انتقال عدوى السلوك إلى أبنائنا عند محاولة تقليد البرنامج، وهو ما حدث بالفعل، حين حاول طفلان تقليد البرنامج، فكانت النتيجة أن أصيب طفلان بحروق أودعتهم المستشفى.
ذلك لأن البرامج لا تقدم مضامين فحسب، لكنها تصدر سلوكاً، إما أن يكون مثل الذي يلعب بالنار، فتصيب من يشاهدها بشررها، أو تكون من نوع آخر، مثل الذي قدمه برنامج «الصدمة»، وهو كذلك من برامج الكاميرا الخفية، لكنه كشف المستور عن كل من يرى أن الكاميرا الخفية لا بد أن تعتمد على إرهاب الضيف وبث الرعب في نفسه، وأن تقديم قيمة برامجية يقبل عليها المشاهد وأسرته، ليست قرينة للقوالب الجامدة والمواقف المملة.
والحق أن برنامج «الصدمة»، والتي كانت الإمارات واحدة من ثلاث دول أو أربع دول صور فيها، أكد على مجموعة من القيم الموجودة في مجتمعاتنا، مثل بر الوالدين ورعايتهما عند الكبر، الرحمة بالأطفال وعدم استغلالهم، احترام المرأة، المعاملة الحسنة للخدم، عدم استغلال حاجة الغير أو السخرية منهم، التربية السوية للأطفال، حسن الخلق مع من يقدم إلينا خدمة، وغير ذلك، الكثير من القيم التي يسعد كل منا أن يشاهد مادة برامجية تدعو إلى ترسيخها والحفاظ عليها، ويسعد أكثر، حين قدمت بشكل جاذب يشد انتباه أبنائنا ويدفعهم لمشاهدته.
والذي يستحق الكثير من التوقف أمام برنامج «الصدمة»، أنه كشف أن القيم الأصيلة، من تراحم وتعاون على الخير والنفور من العنف وحب الخير ومعاونة الغير، متجذرة في ضمير شعوبنا العربية، مهما اختلفت الأوطان، وأن شبابنا الذين ادعى البعض أن العصرية والعولمة والحداثة وما بعد الحداثة، قد جعلت بينهم وبين قيمنا الأصيلة حاجزاً وحاجباً، في عصر موغل في المادية والبحث عن النفع الذاتي، كل هذه الادعاءات، تساقطت، حين يكون اتخاذ الموقف وتدخل من شباب في غالبهم، فضلاً عن أنهم ليسوا أصحاب شأن بما يحدث، غير أنهم رأوا خطأ ولم يقدروا على السكوت عنه، ومن لم يتدخل بشكل مباشر عبر عن رفضه بالانسحاب، ورغم أن البرنامج تم تصويره في أربعة دول هي الإمارات، والسعودية، والعراق، ومصر، إلا أن ردود الأفعال كانت واحدة في رفض الخطأ، وهو ما يؤكد أن قيم أمتنا العربية ما زالت سياجاً حافظاً لشبابنا، يحتاج دائماً إلى من يكشف عن ذخره وقيمته.
لذلك، فإن الصدمة الأولى من برامج ما زالت تستخف بعقل المشاهد، وتجعله يتأفف تبرماً وضيقاً من حالها، قد خفف من وطأتها، الصدمة الأخرى من برنامج «الصدمة»، الذي أعتقد أنه أحرج الكثير من منتجي البرامج، وأعلن إفلاسهم وضحالة أفكارهم، والفرق كبير بين صدمة وصدمة، وبينهما جمهور.
المصدر: البيان