كاتب وأكاديمي سعودي
التوقيت والنتائج في زيارة الملك سلمان الأولى لأميركا وضعت عنونا مختلفا لمرحلة جديدة من العلاقات السعودية الأميركية. فالملك سلمان اعتذر عن عدم حضور اجتماع كامب ديفيد الذي دُعي إليه زعماء دول الخليج لقمة مع الرئيس الأميركي في منتصف مايو 2015م، وكان ذلك متوقعا ومبررا، فتصريحات الرئيس الأميركي في لقائه مع توماس فريدمان مسّت شؤون دول الخليج الداخلية على حساب التهديد الإيراني للمنطقة ما أعطى انطباعا غير مريح، وزاد الطين بلة غموض الاتفاق الذي لم يطمئن حينذاك دول مجلس التعاون.
الملك سلمان نأى بنفسه وتاريخه أن تكون زيارته الأولى للولايات المتحدة الأميركية إلى كامب ديفيد لما للمكان من ايحاءات سلبية تخدش صفحة الملك ناصعة البياض.
جاء توقيت الزيارة في وقت حرج للرئيس باراك أوباما حيث كان في أشد الحاجة لدعم سعودي واضح فيما يتعلق بالاتفاق النووي مع إيران. الكونغرس بمجلسيه كان منقسما وأي دعم علني من الملك سلمان لهذا الملف سيسهم في حسم الجدل الأميركي الداخلي. ولسنا نحن الذين نقول ذلك فقط بل إن الأميركيين أنفسهم سواء في الكونغرس أو الإعلام يعتبرون أن الدعم السعودي للاتفاق سيجنب البيت الأبيض احراجات شديدة الخطورة. وإذا كانت دول 5+1 لم تقنع المشرعين الأميركيين بقبول الاتفاق وتمريره، فكيف يملك السعوديون هذا التأثير الواضح للعيان على التراب الأميركي؟
أعتقد أن صدق المملكة في علاقاتها مع أميركا والتزامها بتعهداتها أكسبها احتراماً عميقاً في دوائر صناعة القرار الأميركي، إضافة إلى أنها قلب العالم الإسلامي ومركز قيادته، ولها تأثيرها الاقتصادي الكبير على مستوى العالم.
صحيفة واشنطن بوست وصفت الملك سلمان بالقائد المخضرم الذي لم يجد في الملك تحدياً يستهلك منه الجهد والوقت للتعامل معه، فقد خبر السلطة وعرف تعقيداتها ومسالك دروبها بسبب قربه من صناعة القرار مع خمسة ملوك. ورأت أنه في فترة وجيزة من توليه الحكم هز بقوة مجتمع السياسة الراكد في منطقة الشرق الأوسط. وتفسر الصحيفة في فهمها لقرارات الملك سلمان الجريئة والسريعة على أنه مارس الحكم والقيادة طويلا وبخاصة في فترة مرض الملك فهد رحمه الله وكان العضد الأيمن للملوك السابقين.
الملك سلمان لم يكن يواجه تحديات سياسية وأمنية خارجية فحسب وإنما داخلية أيضا، فعمد بشجاعة الخبير إلى تجديد هيكلي في وراثة الحكم، فدفع بدماء شابة من أحفاد المؤسس إلى المسؤولية، وحسم القلق الدائم حول الخلافة. هذه الخطوات المصيرية داخليا وخارجيا ألقت بثقلها على زيارة الملك سلمان، فهو يأتي من دولة تقود تحالفا لم تتمكن دولة من تشكيله وقيادته قبلها سوى الولايات المتحدة الأميركية، ولذلك فإن ملامح القوة واستقلالية القرار لم تكونا غائبتين عن الزيارة. إذ هو يجلس في مواجهة الأميركيين وقد حسم أموره بحزم أمام التحديات الوجودية التي كان عليه أن يتعامل معها في وقتها.
حضور الملك سلمان، ودقة تعبيراته انعكسا بشكل ملحوظ على الانطباع الذي خرج به الصحافيون والمراقبون المتجمهرون أمام مدفأة البيت الأبيض الشهيرة. فقد أرسل الملك سلمان رسالتين واضحتين لأميركا والعالم، أولهما: أن العلاقات السعودية – الأميركية رغم ما تمر به من فتور قوية، وأن المملكة حريصة عليها، وبذلك كانت زيارته الخارجية الأولى للولايات المتحدة الأميركية، وثانيهما: أنه جاء من بلد مزدهر آمن مستقر، وأنه يريد لشعوب المنطقة والعالم أن تنعم بذلك.
لقد صرح الساسة والإعلاميون الأميركيون وكتبوا قبل بدء الزيارة عن أهمية التوافق السعودي – الأميركي للشرق الأوسط والعالم، وللبلدين أيضا. وبذلك انتقلت نتائج هذه الزيارة بالعلاقات على مستوى البلدين من تعرف الأميركيين على فريق جديد يدير دفة القرار في المملكة والمنطقة إلى تعاون تجاري مفتوح بين البلدين، وهذا مطلب قديم كتبت عنه قبل نحو أربع سنوات في هذه الزاوية. وفي اعتقادي أنه لايقل أهمية عن التفاهمات الأولى التي ولدت على ضوئها شركة الزيت الشهيرة “أرامكو”.
المحادثات التي تمت خلف الأبواب المغلقة تختلف تماماً عن المجاملات التي كانت أمام وسائل الإعلام، وأجزم أن الصراحة كانت حاضرة في المباحثات السعودية – الأميركية، لأنها الطريق الوحيدة للخروج برؤية أكثر وضوحا عن مستقبل العلاقات السعودية – الأميركية. وما يزيدنا اصرارا على التفاؤل أن هذا الملف قد سُلم برمته لرجل المهمات الدبلوماسية الصعبة الأمير محمد بن سلمان.
وبذلك تكون هذه الزيارة قد خرجت بنتائج اقتصادية ملموسة، إلى جانب نتائج سياسية وعسكرية تتطور مع الوقت لتشكل منعطفا مهماً في العلاقات بين البلدين تنعكس على المنطقة والعالم بالخير والسلام إن شاء الله.
ومتانة العلاقات السعودية – الأميركية التي بدأت بلقاء الملك عبدالعزيز بالرئيس الأميركي روزفلت مازالت منذ ذاك، أسيرة لبعدها المتغير، ولذلك فإنها تتعرض لهزات عنيفة أحيانا، وفتور في أحايين أخرى، ولا تجد لها في هاتين الحالتين دعما من القوى المؤثرة في صناعة القرار الأميركي أو السعودي.
المطلوب في هذه الظروف المواتية استثمار الحضور السعودي القوي على الساحة الأميركية بتفعيل المعلومة والكلمة والقوة الناعمة من خلال الأدوات التي يفهمها الأميركيون، وبلغة التواصل الحضاري، والبحوث والدراسات ومراكزها.
لقد حققت الزيارة شعبية أفقية رائعة، ولكنها تحتاج إلى تعهدها من خلال حراك سعودي – أميركي منظم، يوظف آليات الدبلوماسية العامة، ويقدم لصناع القرار في الولايات المتحدة الأميركية والمملكة معلومات تبنى عليها سياسات، وألا يترك مصير هذه العلاقات الاستراتيجية المهمة للبلدين والعالم رهنا لبعدها الرسمي المتغير، وإنما تدعم بالتأثير الدائم من خلال جماعات الضغط، ومراكز الدراسات السعودية – الأميركية والانفتاح على بعض في هذا المجال لتشكيل رؤى فكرية متقاربة حيال القضايا المصيرية للبلدين. وبدون ذلك سيبقى المجتمعان السعودي والأميركي غريبين عن بعضهما، وهو أمر لايساعد السياسي على التقدم بمزيد من المبادرات في محيطه المحلي تجاه الآخر المجهول بعلم مغلوط أو بدون علم وإنما اعتمادا على النمط السائد.
المصدر: صحيفة الرياض