خاص لـ هات بوست:
ما معنى أن تكون مثقفاً؟
هل هو حرف د. يسبق اسمك، مقروناً بالأستاذ والبروفيسور ربما؟ هل هو منصب معين مرموق؟ عضوية ما؟ شهادات أنيقة على الجدار؟ مستوى معرفة، وأرتال من الكتب التي قرأتها والدورات التي حضرتها؟ أم مكتبة فارهة تزين منزلك؟
أو لعله مظهر معين؟ نظارة طبية سميكة، كوفية، وطريقة كلام تشبه مذيعاً تلفزيونياً في برنامج حواري ساخن، إبان طفرة الفضائيات العربية؟
وإذا أضفنا لهذا السؤال الشائك بعداً آخر: ما معنى أن تكون مثقفاً وفق معطيات اليوم؟ زمن ما بعد العولمة، وما وراء قنوات التواصل الاجتماعي، في ظل الخوارزميات، وبمحاذاة الذكاء الاصطناعي والواقع المعزز؟
نقول ثقافة ومثقف، وندخل في جدل طويل حول المعنى واللفظ، ثقف يثقف فقد حذق، وهو حاذق، ومشذب بأداة حادة من الأعراف والتقاليد السائدة والمعرفة المتوارثة..
لا أريدُ أن أذهب بعيداً؛ الثقافة، في جوهرها، إذا أمعنا النظر وببساطة شديدة، حالةُ وعيٍ حيّ، وحراك دائم، طريقةُ نظرٍ إلى الذات والعالم، واستعدادٌ لإعادة هذا النظر لذواتنا قبل أن نُصدر أحكاماً على الآخرين.
الثقافة إذن لا تُقاس بما نعرف ونراكم، بل بما نصنع بهذه المعرفة. قد يحمل المرء أعلى الدرجات العلمية، ويشغل أرفع المناصب، ويظل أسيراً لأفكار جامدة، يخشى التغيير، ويضيق ويرتاب بالاختلاف، ويقدّس ما اعتاده وكأنه حقيقة لا تحتمل الشك.
في المقابل، قد يكون الإنسان بسيط الأدوات، محدود التعليم، لكنه يمتلك الوعي والإدراك والفضول المعرفي، والقدرة على الإصغاء والتعلّم، وقبول التغيير في معناه الإيجابي، فيغدو أكثر ثقافة ممن يملكون مكتبة ضخمة ولا يفتحون نوافذ عقولهم.
الثقافة في لبها هي الجرأة على مساءلة المسلّمات دون إسفاف، وعلى نقد الذات دون جلد، وعلى الاعتراف بأن ما نؤمن به اليوم قد يحتاج إلى مراجعة غداً.
المثقف الحقيقي لا يخاف من أن يقول: كنت مخطئاً، ولا يرى في التراجع هزيمة، بل نضجاً. فالثقافة ليست بناءاً إسمنتياً، وإنما نهراً شفيفاً متجدداً، إن توقّف عن الجريان صارت مياهه آسنة.
هي القدرة على بناء المعرفة وإنتاجها لا استهلاكها فقط. أن نقرأ لا لنستعرض، بل لنفهم.. أن نكتب لا لنُقنع الآخرين بتفوّقنا، بل لنفهم فوضى أنفسنا والعالم من حولنا.. أن نتحاور لا لننتصر، بل لنقترب من حقيقة أكثر اتساعاً.. الثقافة هنا فعلٌ يوميّ، ممارسة أخلاقية قبل أن تكون حذلقة لغوية.
في معناها الأعمق، الثقافة موقف إنساني: انحياز للعقل، واحترام للاختلاف، وإيمان بأن الحقيقة متعددة الزوايا، وأن الإنسان مشروع تعلّم لا ينتهي، وقبول وتعايش وانفتاح. من امتلك هذا الموقف، كان مثقفاً، آياً كان موقعه. ومن افتقده، بقي خارج إطار الثقافة، ولو حفظ ألف كتاب، وألف بيت من الشعر، وألف موعظة.
على مستوى الأمنيات، تمنيت دائماً أن أجد المثقف المناسب في المكان المناسب، وما أكثر الأماكن والمناسبات الثقافية في زماننا هذا وما أندر المثقفين..
يقول النوبلي ألبير كامو:
«المثقف شخص يراقب عقله..».
وما أحوجنا اليوم لمراقبة عقولنا وسط كل هذا الضجيج..
