يتواءم خطاب العلامة الشيخ عبدالله بن بيه مع مقتضيات “بذل السلام للعالم” المفهومية والدلالية بالمعنى الإسلامي العميق، ومقتضيات المعرفة العقلانية؛ بالمعنى الفلسفي الرائج ثقافياً في الوعي المعاصر، ومقتضيات فلسفة الفقه المقاصدي في إطار ما يسميه الخطاب منهجية “التبيين”، أي أن واجب العلماء أو الفقهاء “التبيين”، ومعنى ذلك أن كل حكم يتعلّق بثلاث جهات، هي جهات التبيين والتعيين والتمكين: فالتبيين هو موقف لإظهار الحكم للناس، أما التعيين فيتعلّق بأعيان من يتجه الحكم إليه، فالأول هو مهمة العلماء والفقهاء، وأما الثاني فهو مهمة القضاة، وأما الثالث فهو مهمة الجهات التنفيذية”.
يتركز جوهر مفهوم ودلالات “بذل السلام للعالم” في الخطاب بشكل رئيس على ثلاثة محاور:
– تأصيل السلم ومبدأ أو ثقافة الحوار والمصالحات.
– الحفر المعرفي بإرث السلم في الإسلام وتصحيح المفاهيم؛ ممّا لحقها من تجريف أو ما طالها من تحريف، وإعادتها إلى طبيعتها الرحمانية، حيث تكون كما في أصلها؛ سياجاً للمحبة والسلام.
– صناعة نموذج ثقافي عربي إسلامي؛ في الردّ على خطاب العنف والإرهاب الذي يستخدم الدين لأغراضه المدمّرة.. نموذج ينهل من ثراء الموروث الثقافي العربي والإسلامي، وتعدّد روافده الحضارية، وتنوّع نظمه الاجتماعية.
ويمكن ملاحظة العالمية أو البعد الكوني في سرديّة السلم الجديدة التي يقدمها الخطاب على أربعة مستويات، تؤسّس لوعي حداثوي في سياق عقلاني إنساني شامل:
– المستوى الأول: يندرج في إطار “قضية السلام العالمي”. وهو مشروع عقلاني علمي/معرفي صرف، يقوم على تحفيز العقول وتثوير ملكات الأنسنة الكامنة في الإنسان؛ سواء لكونه كائن اجتماعي، أو بمقتضيات الدين ودواعي الأخلاق. هذا إلى جانب استعادة الأسس العقلانية التي قامت عليها جواهر الحضارة العربية والإسلامية. وهو ما يستدعي المغامرة الذهنية والجهد الإبداعي الخلاّق، من خلال القيام بما يسمّيها الخطاب، عملية حفر معرفي في الأصول الإسلامية؛ للكَشف عن نصوص السلم المنسيّة ومقاصده المعطّلة. ذلك لأن الإسلام بنصوصه ومقاصده هو دين محبة وسلام للعالم.
ولذلك يطالب الخطاب بضرورة إتقان “حرفة التنزيل”، أي تنزيل النصوص على الواقع، وفق منهجيات “التعليل والتدليل والتأصيل والتأويل، وفتح الآفاق”، من حيث منطلقاتها (أي تحقيق المناط في الواقع)، من خلال التركيز على أهمية الوعي بطبيعة العصر، وإدراك الواقع بكل تفاصيله الوطنية والإقليمية والدولية؛ لأننا بحاجة إلى بناء رؤية جديدة للعالم، تقوم على حقائق الوضع القائم اليوم. فقد توصّلت البشرية إلى مواثيق أممية وقوانين دولية تُؤطّر بها العلاقات، وابتكرت نظماً وأساليب لترتيب العيش المشترك والتعدّدية الدينية والعرقية.. ذلك هو الواقع اليوم، الذي صار يفرض تأويلاً جديداً وتنزيلاً متجدّداً، فالواقع شريك أساسي في الاستنباط وفهم النصوص وتطبيقها.
– المستوى الثاني، يندرج في إطار قضية الخير العام، وهو مقاربة معرفية، غرضها صناعة نموذج إسلامي معاصر، مؤهل للتواصل والتفاعل الإيجابي مع الآخر، والمشاركة بنديّة وفاعلية كفوءة في صناعة مستقبل البشرية على أساس قيم الخير والجمال؛ دون التغافل عن التجارب الثقافية السابقة على مستوى العالم، ودون تجاهل معطيات الحداثة الراهنة، أو إهمال اندفاعاتها التقنية وسيروراتها الرقمية، التي تضخّ ما يمكن أن نسمّيه “معرفة ومضيّة” متسارعة، لا تستدعي بالضرورة مراجعة “نظرية المعرفة” عينها فقط، وإنما إعادة النظر أيضاً؛ بمدى فاعلية المنظومات القيمية التقليدية في الوعي والممارسة العملية الراهنة على المستوى الوطني، ثم التركيز على إبداع مشتركات قيمية جديدة، مؤسّسة على تأطير مفهومي كوني مشترك.
– المستوى الثالث، يندرج في إطار “قضية المواطنة الشاملة”، وهو مقاربة عقلانية، تروم تأسيس ثقافة الحوار واعتماد مبدأ المصالحات؛ كأسلوب حياة وحيد؛ لحلّ النزاعات وتسوية الاختلافات؛ سواء أكانت حقوقية أو ثقافية، ليس في إطار كيان الدولة الوطنية فحسب، وإنما على مستوى جميع المجتمعات البشرية.
– المستوى الرابع، يندرج في إطار عمارة “الأخوة الإنسانية”، المؤسسة في الخطاب على وعي عقلاني وإيماني؛ بوحدة المسار والمصير المشترك، الذي يستدعي بداهة؛ تضافر الجهود (أي جهود العقلاء والحكماء)، وتسخير الطاقات المادية والمعنوية، أو الدينية والأخلاقية.
إن خطاب العلامة الشيخ عبدالله بن بيه ينبههنا ببساطة شديدة أو متناهية، إلى أن حقائق الحكمة، كما القول بأن على البشر أن يعيشوا بعدالة، أو أن يخضع الأسوأ للأفضل، أو أن ما ليس فاسداً خير من الفاسد، والخالد أفضل من الزائل، والذي لا يُنتهك خير من الذي يُمكن انتهاكه والاعتداء عليه. فتلكم ليست بالحقائق التي يصنعها كل شخص بمفرده، فهي تمثل معايير عامة مشتركة. وهذا هو بالضبط والدقة ما يمثل جوهر الاستجابة لدعوة الشيخ الجليل للعقلاء والحكماء في الخطاب من أجل التعاون والتحاور على كلمة سواء، غرضها غزل ضفائر الحكمة وتطريز جبين الإنسانية بها. فمعرفة أن هذه الحقائق هي كذلك، أي حكمة، تجعل الإنسان لا يفحصها طلباً لصوابها؛ بل يبتهج لاكتشافه إياها. “فنحن نطلق حكماً في عقولنا على الحقيقة. ومن هنا نرى أن هناك شيئاً أعلى من العقل الإنساني، تمّ البرهان: الله= الحقيقة موجودة، فالحقيقة هي واقع حقيقي عام مشترك، وبمعنى أقوى من الأشياء التي نراها ونلمسها؛ لأنها غير هذه الأشياء التي قد نتدافع بسببها لكي ننظر نظرة جيدة، أو ندفع الناس جانباً لكي نلمسها. فالحقيقة يمكن أن يتمتع بها الجميع معاً (أنظر: تشارلز تايلور،منابع الذات الإنسانية – تكوّن الهُوية الحديثة- ت – حيدر حاج اسماعيل، ص- 212)، ويستمتعون بمسراتها؛ باعتبار أن السعادة لا تتحقق على الوجه الأرقى والأكمل؛ إلا من خلال اكتشاف الفاعلية الخيرية في الإنسانية.