كاتب سعودي ويشغل حالياً منصب مدير قناة "العرب" الإخبارية
تحسّن مزاج السعوديين في شكل كبير خلال الأيام الأخيرة، على رغم أن الدولة لم ترفع رواتبهم، ولم تنجز أي مشروع سكني من بين عشرات المشاريع التي وعدت بها قبل ثلاثة أعوام، وحتى أسعار الأراضي الخام التي تفيض بها صحراؤهم لم تنخفض على رغم أنها المسبب الأول لارتفاع التضخم وكلفة المعيشة. كل ما حصل أن شوارع مدنهم باتت أكثر احتمالاً بعدما خفّ ازدحامها، والسبب حملة جادة لترحيل العمالة المخالفة لنظام العمل التي لم تسوِّ أوضاعها خلال مدة السماح التي انتهت الأسبوع الماضي.
هذه الحقيقة البسيطة تعني أن أعداد العمالة «مليونية»، وقد ألقت بثقلها على البنية التحتية فزادتها عبئاً على عبء، فما إن تزحزحت قليلاً حتى تنفست الصعداء ومعها مواطن سعودي يبحث حائراً عن حياة أفضل.
هدف وزارة العمل المعلن هو تنظيم سوق العمل بعدما شاعت فيه الفوضى بحمل كل من استقدم عاملاً، بأن يُشغل عامله أو تنقل كفالته إلى من هو بحاجة إليه أو يرحله، ولكنها لا تقبل أن يعيش ذلك العامل في فوضى يتنقل من وظيفة إلى أخرى من دون أوراق ثبوتية أو عقود. إنها تريد دفع الجميع نحو «النطاق الأخضر»، وهو مساحة تحسب وفق معادلة رياضية تختلف من قطاع تجاري إلى آخر لحساب نسبة السعودة (توطين الوظائف) المتحققة والمرضي عنها، ومن يدخله فهو آمن من الغرامات والإغلاق، وله أن يستقدم عمالة أجنبية، أو ينقل عمالة من أصحاب النطاقات الأقل حظاً (الأصفر والأحمر) ممن عجز عمداً أو كسلاً عن توظيف عدد كافٍ من السعوديين والسعوديات الذين بات توظيفهم في صدارة أولويات الحكومة.
ولكن ثمة هدفاً «أخضر» آخر يجب أن يدخل ضمن حسابات وزارة العمل والحكومة السعودية عموماً، وهو «البيئة»، وله علاقة بطوفان العمالة الأجنبية الذي ينهمر كل يوم ومن دون توقف عبر منافذ المملكة الحدودية منذ عقود، فلو كانت المملكة العربية السعودية كوكباً مستقلاً لحصلت فيه كارثة بيئية ولهلك سكانه، فبحساب «البصمة البيئية» للمملكة فإنها تحتاج إلى أن تكون مواردها الطبيعية ضعفي ما هي عليه الآن كي تستطيع أن تعيش، ولكن من حسن حظها أنها ليست كوكباً منعزلاً، فعوضت ما ينقصها باستيراده من «الكواكب» الأخرى، ولكن الخبراء يقولون إن هذا ليس بالحل المستدام – أي المضمون – فثمة قيود تحد من حرية الاستيراد كالحروب أو المجاعات أو ارتفاع التكاليف، كما أن القدرة المادية المتاحة للاستيراد ليست مضمونة هي الأخرى في المستقبل، إذ تحكمها تقلبات الزمان وأسعار النفط. الحل الذي ينصح خبراء البيئة به هو إحلال توازن بين عدد السكان والموارد المتاحة، وتدخل في ذلك منظومة معقدة كرفع القدرة الإنتاجية للفرد من خلال التعليم والتدريب، واستخدام أفضل للموارد المتاحة مع ترشيد في الإنفاق، وبالطبع فإننا في المملكة لا نفعل شيئاً من هذا وإن فعلنا بعضه فلا نحسنه، ذلك أننا مصابون بلعنة النفط التي تشعرنا باطمئنان زائف، وكان هو السبب في إهمالنا حال التسيب الصريح للعمالة الأجنبية، والسماح لاقتصادنا بأن يدمن عليها، وأن يستمر في الإدمان، وألا نطبق الأنظمة التي نصدرها لمنع الاتجار بالعمالة والتستر عليها، وهو ما خلق اقتصاداً موازياً لا يصب في مصلحة الناتج القومي، وجعل البلاد مغرية للهجرة غير المشروعة والاستقدام الجائر، حتى ارتفع سكان البلاد إلى الضعف، فشكل الأجانب منهم أقل من النصف بقليل، وهو ما أحدث حالاً غير طبيعية اقتصاداً وبيئة.
اللعنة نفسها جعلتنا – ولا نزال – نهمل الاستهلاك الجائر لمواردنا الطبيعية المحدودة، وأولها الماء في مشاريع زراعية عبثية وغير مرشدة مثل زراعة القمح، والفخر بوجود أكبر مزارع لتربية الماشية وإنتاج الألبان في بلد صحراوي شحيح بمياهه. أما في مجال النفط فنحن من أكبر الدول استهلاكاً له بالنسبة إلى عدد السكان، فمدننا تعمي أبصار الطائرات التي تصلها ليلاً، فيتعجب راكبوها من إضاءتها المبالغ فيها، بينما ندعم أسعار البنزين والديزل ليكون الأرخص حول العالم.
نظرية «البصمة البيئية» يمكن أن ترشدنا إلى مستقبل أفضل، أو على الأقل مضمون الحياة فيه، وحيث إنني غير ضليع بها استعنت بصديق خبير في البيئة، فذهلت بالقليل الذي قرأته في دراسة صدرت عن المنتدى العربي للبيئة والتنمية أرسلها إليّ، وتستحق أن نعقد أكثر من لقاء حولها، فهي المجال الأخضر التالي الذي يجب أن تلجه وزارة العمل السعودية، بعدما حققت نجاحاً في توجيه البوصلة الحكومية نحو اعتبار هذا الفائض في العمالة الأجنبية مشكلة، بعد أعوام من التجاهل لها، وهي لم تنجح بعد في إزالة المشكلة، وإنما بدأت في ذلك.
التحدي المقبل هو إقناع المسؤولين قبل المواطنين بأن النهضة هي في تحقيق «نوعية حياة أفضل»، وهذا لا يكون بمدن أكثر اتساعاً وأعلى بنياناً، وإنما بمدن أنيقة مكتفية بسكانها الأصليين ومواردها الطبيعية، سعيدة بحياتها، وأقل ازدحاماً في طرقها، بل قد تكون هذه المدن أقل كلفةً تسييراً وصيانة، فلو أدخل مفهوم التوازن البيئي إلى تخطيط المدن السعودية لتغيرت تماماً، ولانكمشت إلى المقاس الصحيح الذي كان ينبغي أن تتوقف عنده.
إنه شعور لذيذ أحسَّه المواطن السعودي هذا الأسبوع، وهو يقود سيارته في طرق غير مزدحمة. اتسع الشارع من دون مشاريع توسعة ذات تكاليف بليونية معتادة، فكيف لو اتسع ذلك ليشمل كل مناحي الحياة؟ ولكن تجربته مع العمالة الأجنبية العنيدة والحكومة التي تفقد حماستها بسرعة تجعلانه يشك في أن يكتمل مشروع المدينة السعودية السعيدة التي ترتاح باكراً، وقد توطنت وظائفها، وارتفعت مداخيل أهلها. إنها عودة السعودية إلى حياتها الطبيعية.
المصدر: صحيفة الحياة