كاتب سعودي ويشغل حالياً منصب مدير قناة "العرب" الإخبارية
أمضيت عيد الفطر في مسقط الرأس بالمدينة المنورة. كنت أبحث عن السعادة المفترضة في وجوه الأهل والأصدقاء. بالطبع كان هناك الكثير منها، ولكن معها قدراً من الشكوى المتوقعة في أي مجتمع من الغلاء والبطالة، وكذلك إجراءات الحكومة لعلاج أزمة البطالة، فكثير من أهالي المدينة تجار وباتوا يضيقون من إجراءات السعودة التي تفرضها عليهم وزارة العمل، وبعضهم يرى أنها لن تحل المشكلة وإنما قد تدفعهم إلى خارج السوق. الشكوى التقليدية الثانية والتي يشترك فيها سكان المدينة مع غيرهم من السعوديين هي تباعد المسافات بين الأهل وفراق الأحبة إلى آخر هذه الرومانسيات والنوستالجيا المعتادة في الأعياد.
توافق ذلك مع انشغال الجميع بهاشتاق «الراتب لا يكفي الحاجة» الذي أطلقه شاب في «تويتر»، فتحول إلى قضية اقتصادية لكُتاب الأعمدة، وحديث مجالس ما بين قائل إنه يكفي وزيادة، وآخر يؤكد بالأرقام والتحليل الاقتصادي المتقن أنه تآكل في ذاته بفعل تضخم محلي وعالمي، بينما كبلت الدولة اختياراتها بسياسة دعم يستفيد منها التجار قبل أن يستفيد منها المواطن.
الحديث في الاقتصاد مفيد لأي مجتمع، وهو مدعاة للبحث عن حلول تحفظ للمجتمعات المستقرة استقرارها، وقد بات الاستقرار هاجساً للمواطن السعودي، وهو يرى حال العرب من حوله ممن لم يتفكر قادتهم في شأن الاقتصاد وحياة وأرزاق الناس، وانشغلوا بالحكم ومكايدات القوى السياسية.
فما الحل الذي يسعد المواطن السعودي ويريحه اقتصادياً واجتماعياً فلا يأتي عيد آخر إلا وهو سعيد قنوع «منشكح»؟ بالطبع لن يحصل ذلك في عيد واحد أو في الذي يليه، وإنما وفق خطة تحتاج أعواماً، وقد بدأت بها وزارة العمل السعودية بقراراتها المثيرة للجدل بتعديل أوضاع العمالة الأجنبية «المنفلتة» بعيداً عن أنظمة الدولة والسعودة بالعصا والجزرة، ولكني أضيف هنا أمرين يساهمان في إصلاح الوضع اقتصادياً واجتماعياً وهما: «الزوننغ» واختصار ساعات العمل. إنها العودة إلى قواعد المجتمع الطبيعي الذي عشناه خلال أعوام ما قبل الطفرة النفطية، ونراه في مدن العالم المتقدم التي نشد إليها الرحال كل صيف، وبخاصة أصحاب القرار منا، إنها المدينة الوادعة الأنيقة التي تغلق متاجرها الموجودة في مناطق مرخص لها في ساعة محددة من ليل أو نهار، وحينها يخيّم الهدوء على كل المدينة فلا تبقى غير بعض المطاعم لاستقبال مواطنين سعداء يقصدونها بعد ساعات العمل ومسائه.
لم أجد كلمة واحدة تترجم إلى العربية الكلمة الإنكليزية الدارجة «Zoning»، وهي أساس ما يدرسه مخططو المدن، وجلّ من يقوم بتخطيط المدن السعودية هم من خريجي جامعات أميركية أو بريطانية، وقد درسوا «علم المناطق المقسمة» في كليات تخطيط المدن والهندسة المدنية، حيث يوزعون وفق قواعدها مناطق المدينة المتوسعة والحي الجديد إلى سكنية وأخرى تجارية، فبعضها مكاتب وأخرى متاجر، غير الورش والخدمات. سألت رئيس بلدية سابقاً في ذلك، فقال إنه ما من مدينة سعودية إلا وقد وضع لها مخطط حضاري في السبعينات من القرن الماضي – أي خلال سنوات الطفرة الأولى والتي نهضنا فيها بالوطن في شتى مناحي الحياة – ولكن تشوه هذا المخطط بسبب الاستثناءات والوساطات – والتي وصفها المتحدث بأنها داؤنا العضال – فتح باباً للفساد أدى إلى توسيع الرقعة على الراتق حتى انهار المخطط الحضاري النموذجي، ثم دهم ما بقي منه توسع سريع في نمو المدن بفضل هجرتين، الأولى من الريف والقرى والمناطق النائية للمدن الكبرى، وهجرة العمالة الأجنبية التي توسعت تدريجياً حتى شكلت ثلث السكان في أدنى تقدير، وهي الأخرى بحاجة إلى سكن، فكانت المفارقة أن أخلى لها السعوديون أحياءهم «النموذجية» التي سماها المتحدث «أحياء خارج السور الأولي»، والتي انتظمت بفلل صغيرة أنيقة في أحياء قريبة من وسط المدينة إلى أحياء أبعد، واستمر السعودي يبتعد عن المركز ومعه تتسع المدينة وتزداد فوضاها، ومعها كلفة خدمتها على الدولة.
العودة لقواعد «الزوننغ» بالفصل بين التجاري والسكني سيصب في مصلحة توطين الوظائف، فجل المتاجر التي تزحف على الأحياء السكنية هي حال تستر صريح، وسيؤدي التطبيق الصارم بإغلاق المتاجر في الأحياء السكنية مع عدم السماح لها بالتمدد في جهة أخرى إلى خروج بضعة مئات آلاف أخرى من العمالة الأجنبية، ثم يأتي القرار الثاني بتحديد ساعات العمل للمتاجر. سيشجع ذلك السعوديين على دخول سوق التجزئة واستعادتها من جديد بعد أن تصبح سوقاً أكثر ربحية، ولا يتطلب ساعات عمل تقضي على الحياة الاجتماعية الطبيعية، فثمة حياة سعيدة يجب أن يعيشها الإنسان. صديق أو قريب يزوره، مباراة كرة قدم يحرص على متابعتها بعد ساعات العمل.
لنعد إلى طبائعنا القديمة. سمعت أحدهم في المدينة المنورة يقول وقد عشت معه تلك الأيام: «كانت ساعات عملي متفقة مع حياتي الاجتماعية. أتوجه إلى متجري في أول ساعات الضحى. كنت أفتح أقفاله بنفسي وأغلقه بنفسي، وبعد صلاة الظهر بقليل أعود إلى البيت الذي كان قريباً من عملي. بعد صلاة العصر أعود إلى المتجر، حيث أبقى فيه ساعة أو نحوها بعد صلاة العشاء، ثم أعود إلى بيتي أو لزيارة أصدقاء.. كانت حياتنا سعيدة حتى بدأ متجر منافس يبقى ساعة أطول، ثم ساعة أخرى، ثم سلّم مفتاح المتجر لموظفه الأجنبي، ثم بدأ يغيب أكثر وأكثر عن متجره حتى سلّمه تماماً لمكفوله، حينها اضطررت أن أفعل مثله».
يجب أن نسعى نحو مدن أصغر، ومتاجر أقل، وشعب متجانس أكثر يعرف بعضه بعضاً أفضل.. هذه هي الحياة الطبيعية، وما عدا ذلك فخطأ يجب إصلاحه.
المصدر: صحيفة الحياة