كاتب وصحفي سعودي
كتبت منتصف الشهر الماضي مقالة تتحدث عن ظاهرة ذهاب الشبان السعوديين إلى سورية، وانقسامهم بين تنظيمات متطرفة مثل «داعش» و«جبهة النصرة»، واستفادة نظام بشار الأسد وغيره منهم، وبيعهم من دوائر المخابرات بأسعار رخيصة في سوق «كناسة» لا تبقي ولا تذر، حتى أصبح السعودي هناك يقاتل ويقتُل ابن جلدته في معارك لا يُعرف من يديرها، ومن يحطب أو يحتطب لها، ولا من يقف وراءها.
فكرت في العنونة لتلك المقالة، ولم أشأ إلا أن اختار لها علامتيّ «استفهام وتعجب» كبيرتين، ثم بعد أيام كتب الصديق والزميل عبدالله بن بخيت في صحيفة «الرياض» معلقاً على ما ورد فيها، وطارحاً تساؤلات مهمة. ولم تمض سوى أيام حتى أطلق الأستاذ القدير داود الشريان على قناة «إم بي سي» صرخة مدوية لا يزال صداها يتردد داخل السعودية وخارجها، مطالباً بمحاسبة الرموز المتورطة في تحريض هؤلاء الشبان ومن يحضّهم على النفير إلى المناطق المضطربة.
هذا الصوت لا بد من أن يرتفع، لأجل أمن الوطن ومستقبل أجياله، حتى وإن حاول البعض كتم الحقيقة تحت عباءة الحماسة ومشلح العواطف، لكن هناك تساؤلات ضرورية يجب ألا تغيبَ أو تُغيّب، وتجب مناقشتها بصدق، بعد أن أضحى تشدد الشباب السعودي أسئلة قائمة في وسائل الإعلام العالمية، واعتبر ظاهرة غير عابرة، تغذيها جذور راسخة في المجتمع.
لا شك في أن القرارات المهمة والجريئة التي أصدرها العاهل السعودي قبل يومين في شأن العقاب بالسجن مدة لا تزيد على 20 عاماً لمن شارك في أعمال قتالية خارج المملكة، ستعالج بعض المسألة، خصوصاً أن العقوبة تشمل المنتمين لتلك الجماعات والتنظيمات المتطرفة أو المصنفة «إرهابية» داخلياً وخارجياً، إضافة إلى أن قانون مكافحة الإرهاب دخل حيز التنفيذ في السعودية.
والحقيقة أن هؤلاء الدعاة «المحرضين» لا يتحملون كامل المسؤولية، بل تتحمل الحكومة أيضاً قدراً منها، وكان يجب أن تعمل على منع هؤلاء الشبان قبل خروجهم حتى لا يتحولوا إلى قنابل متفجرة، وتستمر المعاناة مثلما حدث بعد عودتهم من أفغانستان والشيشان.
أيضاً تتحمل الأسر والعائلات قدراً كبيراً من المسؤولية لإغفالها أو تجاهلها لأبنائها، وعمّا طرأ من تغيرات فكرية عليهم، وإبلاغ الجهات الأمنية عمّن يغرر بهم قبل خروجهم إلى المناطق الساخنة، وليس بعد خروجهم لاستعادتهم والقصاص ممن حرضهم أو سهّل خروجهم.
كما أن البيئة التعليمية الهشة في السعودية، والأنشطة الصفية واللاصفية لم تعمل على تحصين الطالب من المعلمين المتشددين ذوي الأفكار الإقصائية الناقمة على كل مخالف في الفكر والمنهج والعقيدة، بل إنها أسهمت في وأد الفكر السوي وعزله، وتمكين الفكر المتشدد المحرض على الكراهية والتكفير والإقصاء. ونتذكر قصص الشبان الذين تم القبض عليهم في شقة العزيزية في مكة المكرمة عام 2003 بعد أن قاموا بتفخيخ المصاحف، ومواجهة رجال الأمن بالسلاح قبل أن يفجر بعضهم نفسه.
أيضاً، هناك غياب تام لتفعيل وسائل الوقاية عبر معرفة ما يدور من أفكار متطرفة قد تشكل خطراً على عقول الشبان الصغار، ما يسهل عمليات استقطابهم واستدراجهم عبر لقاءات وندوات ومحاضرات تقام في الاستراحات وداخل المساجد، وذلك يستدعي إيجاد حلول مثل فتح قنوات حوار معهم، ومنحهم المساحة المناسبة للتعبير عن آرائهم، ومعرفة أسباب تشددهم، وتوضيح مخاطر ذلك عليهم وعلى الدين والأمة، لأن كثيراً منهم غُرر بهم وخدعوا وبيعوا بالأموال كما قال مفتي المملكة أخيراً.
من الأسباب أيضاً وجود قنوات فضائية تحرّض على التكفير والكراهية، وتبث الفتنة وتدعو إلى الاقتصاص من المخالف، ما يستلزم إنشاء قنوات فكرية مضادة، هدفها التحذير من التكفيريين وأصحاب التوجهات المتشددة، وإنتاج خطاب صادق غير مراوغ، يتسم بالتماسك والتأثير حتى يمكن إعادة العقول المغسولة.
ما زلت أرى أن المسؤولية الأولى تقع على الأسرة، ما يُوجب مساءلتها ومحاسبتها، فمن يغفل عن تحولات وسلوكيات ابنه لا شك في أنه غافل عن مستقبل بيته ووطنه، كما أن المدرسة والجامعة شريكان، وتجب عليهما المشاركة الفاعلة في استصلاح كل متطرف قبل أن يتحوّل إلى مشروع «إرهابي».
الأكيد أن مواجهة الفكر المتشدد لا يمكن أن تكون عبر الحلول الأمنية وحدها، لأن الأمر يحتاج إلى حوار أفكار وإقناع، حتى يمكن تبديد التعاطف الشعبي مع الغلاة والمتطرفين، وفضح مخططاتهم، وكشف الخطاب التكفيري التعبوي، وذلك بتسخير عقول مؤهلة مقتدرة لا ناصحة فقط، أو ما يطلق عليه «المناصحة» التي تخرَّج على يديها بعض السعوديين الذين لم يلبثوا قليلاً حتى فروا إلى جبال اليمن وكهوف تورا بورا!
المصدر: الحياة