كاتب سعودي
في الحقيقة لا ذنب لهم، نحن المذنبون بالتأكيد، عندما اعتقدنا أنهم باقون، لا نعلم لمتى ولكنهم لن يغادروا، لن يبرحوا اللحظات التي لا تستنسخ، لن يتركونا في جوف التساؤل ويهربون، لن يغيبوا دون أن يلوحوا بذلك سلفا، ليس لشيء.. وإنما لسبب يتيم وحيد، لأنهم لا يجب أن يرحلوا.
اختاروا أن يتسللوا من الحياة بهدوء، رامين خلفهم كل شيء، في قمة الضوضاء خرجوا بصمت؛ مختلف بطريقته، يربك معه جميع الفضاءات، ويعيد صياغة كل الأشياء، ويبعثر كل ما بدواخلنا، يتركنا في قمة الدهشة والاستنكار والانكسار، وخليط من المشاعر المشوشة، نلاحق ما تبقى من ذكرى، نعلّبها في زوايا خاصة، حتى نستعين بها، متى ما لاحقنا الحنين، وكثيرا ما يفعل.. وسيفعل!
بابتسامته التي نعرفها، صنع بها الحياة، وشيد بها بوابات الدخول لقلوب الناس، كل الناس، وسخر بها من تعبه.. حملها معه ورحل، وتركها في ذواكرنا في الوقت ذاته؛ غادرنا البشوش، صاحب القلب الكبير، الذي عبثت به مشارط الأطباء، في ليل باريسي كئيب، لم يهتد للفرح، اختار أن يكون مسرحا للغياب، ووجهة للعتاب، بلا وداع ولا استئذان، بغفلة من الحياة، بسلام.. رحل.
لم يكن الإنسان سعود إلا هو، عاش لا يشبه سواه، ولا يعبر إلا عما يمثله، مختصرا كثيرا من ذلك بابتسامة، كانت لغة تخاطب استثنائية، مباشرة أو من خلف شاشة، بل إنها تسللت كثيرا عبر مذياع الإذاعة، واختار أن يقول بها معظم الأشياء، كمنهج وهوية له في الحياة.. كما لم يفعل غيره معها.
استطاع الكريم سعود أن يدجن كل المتناقضات، وأن يرسم خطاً خاصاً به، يجمع به كل المختلفين، بروحه الساحرة، وابتسامته التي لا تغادر، ويصنع منطقة وسطا، يجتمع فيها المفكرون والفنانون والإعلاميون والسياسيون، وحتى رجال الدين، كان قادرا على خلق هذا المزيج، الذي يستوعب جديدا دوما من شتى الشرائح، وأن يؤلف المعزوفة التي يطرب لها الجميع، وأن يكون على بعد مسافة متشابهة، كسفير فكري يترجم ويوحد كل هذه الاتجاهات.
غادر «سفير العواصم»، بعدما نشر الكثير من الحياة في بلدان مختلفة، كرماً ونبلا وإنسانية، مقسما الذكريات بينها، ومخبئاً بها الكثير من الذكريات والمواقف مع عدد من أحبابه، الذين فجعوا برحيله سريعا، واصطفوا وفاءً يبكونه، لكنه القدر؛ ولا اعتراض..
رحل «سعود» بسلام، ولم يفعل، بقي اسمه، وتخليده بشكل أكبر (واجبا)، وهو دور المؤسسات الإعلامية، سواء الحكومية أو الخاصة، لذلك من المفترض أن تطلق جائزة متخصصة في نفس المجال، تكون باسمه، وتعرف الأجيال الحديثة به.. وما يستحقه الدوسري أكثر من ذلك، بكثير جدا! والسلام
المصدر: الرياض