خاص لـ هات بوست:
يعد التأويل في النحو العربي(interpretation) من المفاهيم الواسعة المتجددة الأشكال والآليات والأنساق، إذ يقوم عند المحدثين على جملة من الوسائط يتعين معها مفهوم التأويل وآلياته بما لا ينفي الخلاف بينهم كما اختلف القدماء، فتجاذبه المقام (situation) والنص أو الشاهد العربي (الفصيح)، واهتمامات المؤول، ويتفاعل معه الأثر (النصي) و(المنهج).
واهتم العلماء -خاصة أصحاب التفسير وعلم البيان وغيرهم- بإبراز أهمية (التأويل) في الدرس القرآني والبلاغي وآلياته، واتجهوا لدراسة التركيب وما يعترضه من أوجه تفسيرية تأويلية، وما يحدث له من تحولات لغوية وبنيوية، وتتحدد إشكالية التأويل من خلال تباين القراءة للنص، وإشكالية تحديد أبعاده ومفاهيمه.
وحين نتحدث عن (التأويل) بوصفه آلية من آليات تخريج النص وتوجيهه، أو كما يعده البيانيون (انزياحاً) عن السياق، إنما نركز على آلية اللغة وعلاقتها بالأنظمة النصية المختلفة التي تراعي المواقف ومقتضى الحال، كما تركز على تناسب المفهوم مع القواعد المقررة دون خروج أو مخالفة، وتؤكد مفاهيم عدة ذات صلة بالتأويل كالاتساع الذي يحققه الكلام بحكم اتساعه وتعدد قراءاته، كما يعتمد التأويل في مفهومه (القواعدي) على قضايا الاستدلال المختلفة حين يسعى إلى إقرار مفاهيم ضمنية للنص تتوافق مع المطرد من النصوص، وتؤكد خلو القوانين اللغوية من النقض والاعتراض.
ويُعنى التأويل بجدل الرسالة، والوضع اللغوي، إذ الرسالة قصدية تُوجّه من قبل شخص يعني بها شيئاً معيناً، أما الوضع اللغوي فليس له موجه ولا مرسل، ولا يهدف إلى قصد، فهو ملزم للجماعة الناطقة به.
وقد دخل التأويل عدداً من العلوم أو الأنساق، واتخذ طرائق متعددة للتوجيه والبيان، كما أضحى متوافقاً في العموم مع قضايا ومفاهيم (القياس) المنطقي والشكلي، أو يحاول المواءمة مع تشكلاتها المختلفة في ضوء تطبيق الوسائل التحليلية أو التأويلية لاكتشاف المعاني والأسرار المختلفة للغة العربية.
ومما يشار إليه -هنا-أن الدرس النحوي (خصوصاً) يركز على (التأويل) بوصفه اجتهاداً خالصاً، ويتعامل معه بكونه تحليلاً للنص قابلاً للتعديل، وتصوراً للمفهوم ربما يكون قريباً من الحقيقة أو بعيداً عنها، بحسب الإدراك الواضح للنظام اللغوي المتكامل، ومن ثم أصبح التأويل هدفاً غائياً للنحوي بهدف الكشف عن قوانين اللغة وتنسيق قواعدها، لذا فهو “أداة هامة وأساسية من أدوات بناء العلم ذاته، وهو من هذه الزاوية يعكس الرؤية العلمية للظاهرة في فترة تاريخية محددة التأويل إلى جانب ذلك، بل وقبل ذلك ظاهرة هامة وأداة أصيلة في الثقافة العربية التي انطلقت من مركز أساسي وهو النص القرآني…، ومن الطبيعي أن يكون له نفس الأهمية في علم لصيق الصلة بالنص القرآني”. (إشكاليات القراءة وآليات التأويل، نصر حامد أبو زيد صـ١٩٢).
وربما أميل إلى القول بأن التأويل (نسبياً) لا يمكن أن يتقارب (عادة) مع فهم القصد، لأن التأويل يتشكل بحسب قدرة القارئ من ناحية، ومن ناحية أخرى بحسب الاتجاه التفسيري الحادث، أو الرؤية (النحوية) للنصوص ذات (الظواهر) المخالفة، وحينها لابد من الاهتمام التام بالمقاربة التأويلية في ضوء الوعي بالرسالة النصية، وترتيب السياقات (الماضوية) لإعادة بناء (سياق) النص ليتناسب مع اتجاه المؤول أو هدف النص (التقريبي).
ومن نافلة القول إنّ دراسة (التأويل) بأنساقه وآلياته المختلفة وعلاقاته النصية الظاهرة (القصدية) في العلوم العربية والفكرية ربما شكّل معضلة واضحة الاتجاه، لاختلاف مفهومه وتباينه في العلوم المختلفة هذا من جهة، ولكونه محاولة اجتهادية لتقرير أسباب مخالفة الأساليب والتراكيب للأصول العامة للنظرية العلمية الخاصة بكل علم من العلوم من جهة أخرى، أو هو ميل ظاهر للمواءمة بين (قصد الناطق) (والقاعدة)، من خلال استدعاء أنماط التأويل وأشكاله.
وينطلق التأويل النحوي بمفهومه العام من النص اللغوي المقبول، ويعد مظهراً للتفاعل بين صاحب النص والمتلقي الذي تتحدد مهمته بعد ذلك في تفسير وتحليل هذا النص، بما يتناسب مع قواعد اللغة، وأنظمتها التركيبية، وينبغي للمتلقي إحاطة المفهوم العام للنص بالسبل المختلفة لأسس التأويل وضوابطه.
ويعد التأويل ضابطا مهماً من ضوابط النظرية في الفكر النحوي، التي تسعى إلى ضبط اللغة في قوانين تسهل الثقة بها، والاعتماد عليها؛ إذ يحافظ على الأصول ويحاول المواءمة بينها وبين الفروع المختلفة، أو النصوص الخارجة عن الإطار العام للنظرية أو القانون النحوي.
غير أنه من المؤكد أن النحاة قد بالغوا في قضايا التأويل، خاصة ما يتعلق بالتأويل العقلي، لأنهم تصوروا أن الكلام العربي له قوالب ومقاييس محددة ومنضبطة لا يحيد عنها، وافترضوا كذلك أن العربي يسير على وتيرة واحدة في كلامه، فلجأوا إلى تأويل ما تصوروه مخالفاً، وأبعدوا كثيراً في بعض الافتراضات.
ولهذا كله وقعت مسائل التأويل أمام أمرين مهمين: افتراض ما ليس موجوداً في النص لتتسق به القاعدة، ووجود ما لا يفترض وجوده، وبذلك يتعلق التأويل العقلي بمحددات ذهنية تختلف مفاهيمها وأغراضها من نحوي لآخر، ولا ريب بعد هذا أن يختلف النحاة في توجيه النص، ويبقى الحكم محل نظر النحوي.
لذا فإنه من المفترض-واقعاً- ألا يزاد-مثلاً- لفظ على النص إلا بقرينة، أو اقتضاء لا مناص منه، لأن حفظ (النص) من الافتراضات، والتأويلات، والاحتمالات سواء في اللفظ أم المعنى إنما هو من باب احترام المسموع، والاعتداد به وتقديره.
لكن ينبغي التنبه إلى أنه حين يكون من أهداف التأويل وغاياته تحوير النص الأصلي، وتسليط الضوء على النص الموازي، واستبعاد (شبهة) الخلل في المنطوق، فإن ذلك يقتضي-جزماً- أن تتم تلك العملية بضوابط محددة، وحاجة مقتضية، لأن الاتساع في التأويل فيه ضرب من التمحل، كما أن في حمل كلام العربي على غير ظاهره فيه مظنة خطأ، أو لحن، أو فساد معنى.
كما أن قانون احترام المسموع عن العرب يقتضي أن نجيز ما نطقوا به أياً كان نوعه: ضعيفاً، أو نادراً، أو شاذاً، أو قبيحاً لأمرين مهمين: أن هذه المسموعات لا يجوز تأويلها لأنها لا تتعارض مع القياس بصورته النحوية لا (العقلية)، وأن الضعف أو القبح وصف للظاهرة، وليس حكماً على الاستعمال، وهي أوصاف (تفاضلية) وغير ملزمة.
وما ذاك إلا لأن التأويل النحوي للنصوص ينظر لبنيتها (السطحية) لا (العميقة)، لأن التدخل المباشر في مراد العربي أمر غير مقبول، أما موافقة القواعد، والمطرد من النصوص، وعدم معارضة القياس الصريح فهي أمور تكتنفها نظرة النحوي، ومشروعية الخلاف في التأويل، وصدق الظاهرة على الواقع العربي.
ولهذا فإن التأويل النحوي إذا كان مؤثراً في بنية النص (العميقة) فينبغي التوقف في إجازته وقبوله، أما إذا كان تأثيره لا يتجاوز بنية النص (السطحية) وغرضه اتساق التركيب، فإن قبوله يعتمد على أمور ثلاثة: موافقة المطرد من القواعد، وعدم الإخلال بالمعنى المراد، وألا يعارض نصاً فصيحاً أو قياساً معتبراً.