دائما ما تقبع مفاجأة في مزادات الخرائط وكتب الرحلات، قد تكون صورة أو خريطة أو كتاب اختفى عن الأنظار وظهر فجأة، ولكن قياسا بحجم المفاجآت وملائمة وقت عرضها للمرحلة التاريخية المعاصرة هي معادلة لا تتحقق دائما. ولكن هناك دائما ما يغير المعادلة وهو في هذه الحالة خريطة تاريخية تلقي بظلالها على الأحداث التاريخية التي تدور في العالم العربي حاليا.
بحماسة يعرض لنا خيبر «سوذبيز» ريتشارد فاتوريني المفاجأة التي أعدتها الدار لزبائنها هذا الموسم، وهناك تحت إطار زجاجي نرى خارطة قديمة مرسومة بخط اليد، دقيقة التفاصيل. هي خريطة رسمها «تي إي لورانس»، (لورانس العرب) بخط يده ووثق فيها خط رحلته التي استغرقت خمسة أيام في شهر مايو (أيار) من عام 1917 وعبر فيها من صحراء النفود بشمال الجزيرة العربية إلى مدينة العقبة على البحر الأحمر في أوج الثورة العربية ضد الحكم العثماني.
الخريطة رسمها لورانس في عام 1918 ويشير فاتوريني في حديثه لـ«الشرق الأوسط» إلى أنها مهمة على عدد من المستويات، أبرزها يكمن في أنها الخريطة الوحيدة بخط يد لورانس العرب التي توضح منطقة شمال الجزيرة العربية، والخط الذي تبعه لورانس في رحلته نحو العقبة. وتبقى للخريطة مكانتها الخاصة رغم أن لورانس قام برسم عدد من الخرائط المصغرة في دفاتر ملاحظاته التي كان يحملها معه، فيقول فاتوريني: «كونها (الخريطة) مرسومة بخط يد لورانس نفسه ووجود الملاحظات التي خطها على اليمين تؤكد ذلك. نقرأ الملاحظات التي خطها لورانس بكتابة دقيقة ويوجه فيها من تصله المخطوطة: «هذه هي النسخة الوحيدة المرسومة، رجاء عدم فقدانها». يوضح أيضا في ملحوظاته أيضا أنه أخطأ في تحديد جهة الشمال على الخارطة ويصحح ذلك برسم خط ينتهي بسهم نحو الشمال.
الخريطة توضح تفاصيل الطريق التي اتخذه لورانس خلال الأيام التي سبقت الحدث الذي يعتبر انتصارا حاسما للانتفاضة العربية، وهو الاستيلاء على ميناء العقبة المطل على البحر الأحمر لاحقا من العام نفسه. وتوضح سكة حديد الحجاز ووادي سرحان في الشمال. يقول فاتوريني: «المعروف أن لورانس كان يحمل معه دائما دفترا لتدوين ملاحظاته وكان يرسم خرائط مصغرة ويدون معلومات حول الناس الذين يقابلهم في رحلاته والتضاريس والمواقع الهامة حوله. نعرف هذا لأن المكتبة البريطانية تحتفظ الآن بكل الدفاتر التي تخص لورانس». وحول السبب الذي دفع لورانس لرسم هذه الخريطة تحديدا يقول: «نعرف أيضا أن دوغلاس كوراثرز، وهو راسم خرائط شهير وكان يعمل في ذلك الوقت على مشروع تابع للحكومة البريطانية على تحسين وتلقيح الخرائط الموجودة للجزيرة العربية، أدرك أن لورانس لديه معلومات جديدة وتفاصيل لا توجد في الخرائط الموجودة لدى الخارجية البريطانية، فطلب من لورانس إمداده بخريطة توضح معالم رحلته إلى العقبة خصوصا أنه لم يكن هناك في ذلك الوقت خريطة مفصلة لتلك المنطقة». الوثيقة الناتجة والتي اعتمد فيها لورانس على مدوناته واستعان أيضا بخريطة للمنطقة من الجمعية الملكية الجغرافية، تعد «فريدة من نوعها»، حسب تعبير فاتوريني. يلاحظ في الخريطة أيضا حرص لورانس على توضيح مكان سكة حديد الحجاز في العقبة التي قام بتدميرها مع الأمير فيصل بن الحسين في ذلك الوقت لقطع الطريق أمام الإمدادات العسكرية العثمانية.
توقيت بيع الخريطة أيضا يبدو مناسبا للظروف التاريخية في العالم العربي هذه الأيام التي يدور فيها الكثير من الحديث حول الحدود بين الدول العربية واتفاقية «سايكس بيكو» التي رسمت المنطقة كما نعرفها الآن. يعلق فاتوريني: «تماما، تحمل الخريطة أهمية خاصة هذه الأيام إلى جانب أنها الخريطة الوحيدة بخط يده تعرض للبيع في مزاد عام»، وهي من مقتنيات الجمعية الملكية للشؤون الآسيوية منذ أن تبرع بها دوغلاس كوراثرز للجمعية في عام 1962 وحتى اليوم. أما عن السعر المتوقع لهذه الوثيقة التاريخية يقول فاتوريني: «إنه أمر صعب جدا، فلم نعرض وثيقة مثلها من قبل للبيع، قمنا ببيع نسخ من كتابه (أعمدة الحكمة السبعة) ونسخ من رسائله من قبل، وفي هذا المزاد نعرض عددا آخر من متعلقاته (منها نسخة أولى لكتابه الشهير)، ولكننا لم نعرض أبدا خريطة بخط يده». المبلغ المقدر للخريطة يتراوح ما بين 70 إلى 100 ألف جنيه إسترليني ولكن ذلك قد يتغير بسهولة إذا ما لاقت الخريطة اهتماما من المشترين، وهو ما يؤكده قائلا: «هناك دائما اهتمام باقتناء الخرائط لهذه المنطقة ولمن يهمه الأمر هذه هي الخريطة التي يجب أن تقتنى».
الخريطة تحمل تفاصيل حول الكثبان والوديان وأماكن الآبار على شكل دوائر صغيرة وخطوط متعرجة، وتوفر ملاحظات لورانس المكتوبة بخط يده عن البعثة ضمن كتاب «أعمدة الحكمة السبعة»، استحضارا ووصفا دقيقا لرحلته وقساوة ظروفها عبر صحراء مقفرة وقاحلة، والتي شكلت تحديا كبيرا حتى بالنسبة لمغامر محنك مثل لورانس، حيث وصف حرارة الصحراء القاسية: «يتدفق الهواء مثل الدخان الكثيف الممزوج بالغبار ووميض الشمس في الغسق». ووصف المسطحات الطينية: «تنعكس أشعة الشمس على المسطحات الطينية مثل المرآة بوهج أصفر اللون يعمي – العيون والأبصار مثل قطع زجاج حارقة على الجفون المغلقة، رؤوسنا تغلي من الحرارة حتى وإن غطيناها نسير بجانب الجمال وتهب الحرارة في موجات متتالية تعمي العيون».
وسبق أن عرضت الوثيقة في معرض «لورانس العرب – الحياة والأسطورة» في عام 2005 بمتحف الحرب الإمبراطوري في لندن، وكذلك في متحف الحرب الأسترالي في كانبيرا.
* مزاد «سوذبيز» للسفر والخرائط والتاريخ الطبيعي في لندن يقام يوم 4 نوفمبر (تشرين الثاني) .
لندن: عبير مشخص
الشرق الأوسط