كاتب سعودي
«لا تنهض أمة بعقل غيرها» هذه عبارة عريضة المعنى، في سنانها حدان قاطعان. فلا يدع طلب الحكمة والعلوم وتعلمها من القاصي والداني والعدو والصديق، إلا أحمق قومه. وطلب الحكمة والعلوم من الأجنبي له درجات ودركات. والحكمة المقصودة هنا هي طريقة التفكير، وأما العلوم فهي تطبيقاتها. فالدرجة الأعلى هي التفوق على المعلم في حكمته. والدرجة العليا هي فهم خفايا حكمة المعلم. والدرجة المثلى هي القدرة على تطبيق ما ينتج عن حكمة المعلم من علوم.
ودركات طلب الحكمة والعلوم من الغير هي كذلك، ثلاث. فالدركة الأدنى، الاستكبار عن طلب الحكمة والعلوم من الغير استخفافا بحكمته أو لكونه عدوا أو منافسا له. والدركة الدنيا، أن لا يُحسن تطبيق علوم حكمة معلمه. والدركة السفلى توجيه حكمة المعلم ليوافق ما يعجبه، فيصنع له المعلم علوما لا تصلح له، فيرجع تطبيقها خسارة عليه. وحال الدول والأفراد مع شركات الاستشارات الأجنبية، لا يخرج عن هذه الدرجات والدركات.
فالشركات الاستشارية الأمريكية مثلا، قد سبقت العالم في صناعة الخدمات الاستشارية بأمرين: علوم بلادهم وعراقة أسمائها الاستشارية. وهذا بالتالي، مكنها من أمرين رسخا مكانتها لاحتكار الخدمات الاستشارية. الأول، اكتساب الخبرات والعلوم وطرق التفكير البشري المتنوع، بسبب عقودها العالمية الكثيرة. والثاني أنه بجانب الدخل المالي السهل بأقل الجهد والكلفة، قد قدم لها فرصة التجارب للنظريات إذا كانت المشاريع علمية، أوالتدريب العملي المجاني لموظفيها الجدد إذا كانت الاستشارة إدارية أو مالية ونحوه، أو تصريف المستشار الأقل جودة والذي سيقبل بترك بلاده والانتقال إلى دول غير متطورة ليصبح مديرا ومشرفا فيها. وأما نخبة مستشاريها وأعظم جهود بحوثها، فينصرف لتنفيذ العقود الاستشارية في بلادهم فأي تقصير هناك يظهر، «فولد بطني يعرف رطني». كما ينصرف لعقود دول العالم المتطور لقوة المنافسة المحلية في سوق استشارات البلاد المتطورة.
وهذه الممارسة التفضيلية، هي من أبسط مبادئ الاستغلال الأمثل لموارد المنظمة. وهذا المفهوم تُعلمه هذه الشركات الاستشارية لزبائنها في دول العالم الثالث ليل نهار، لو كانوا يفقهون. كما أن هذه الشركات الاستشارية تحكُمُها الفطرة الإنسانية التي تُنزل الناس منازلها. فالعاقل لا يُعين شحاذ شارع، كما يُعين عزيز قوم ذو معروف وفضل قد لحقت به جائحة. وهي كذلك تُطبق ما تُدرسه زبائنها من أبسط قواعد التسويق «الزبون أولا». والزبون هو الشركة، أو الوزارة الحكومية مثلا.
فالزبون في دول العالم الثالث قد يعجبه أمر أو يبهره نموذج في دول أجنبية، فيتمنى قيام مثلها في شركته أو بلاده. فيأتي بشركة استشارية أجنبية ويدفع لها مبالغ كبيرة ويوجهها بشغف إلى آماله وطموحاته. والفرس تعرف خيّالها. فالشركات الأجنبية فيها خبراء فطاحلة لا يُستهان بهم، ولكن مشاريعهم كثيرة في بلادهم وفي غيرها، ولذا فاهتمامهم بمشاريعهم في البلد الأجنبية الغير متقدمة، يَنصب على الفارس الذي يقبض اللجام والعصا. فهم يستفيدون منه الحكمة المحلية بقبضه للجام وتوجيهه، كما يخشون من تبعيات عصاه المادية وشهادته الإعلامية ضدهم التي ستفقدهم نصيبهم من سوق استشارات هذا البلد الأجنبي.
فمتى أدركت الشركات الاستشارية الأجنبية العريقة، أن صاحبهم الطموح ليس خيّالاً، وأدركت انتشار ثقافة الفكر الجمعي في البلاد الغير متقدمة، أدركت قوة مكانتهم الإقناعية المسيطرة والكافية لإخماد أي قدحٍ لشرارة فكر متسائل، وكتم أي صوت تحذيري.
فعندها يعلمون أنهم قد ضمنوا السلامة كما أمنوا من العصا، فاللوم بعد فشل المشروع لن يتوجه لهم بل لهذا المجتمع المتخلف العاجز عن التطور. ولذا فهم عادة في هذه الحالات يرسلون صبيانهم الصغار – مع مشرف أحيانا – ليتدربوا على تنفيذ دراسات هذه المشاريع إذا كانت إدارية أو مالية أو تنظيمية. وأما في حالة المشاريع العلمية، فيرسلون علماءهم الذين بحاجة إلى عينات لاختبار نظرياتهم الجديدة عليها، ما لم يكن هناك تبعيات خطيرة تتعدى فشل المشروع والخسارة المادية لصاحبة أو بلاده فقط. كنظرية جديدة في تحصيل الطاقة الشمسية لم تُجرب على ضغط معين أو لفترة طويلة يثبت بها جدوى المشروع.
بالاستشارات الأجنبية، لحقت بل سبقت كثير من الدول الغنية بركب الانتفاع من الحضارة الحديثة. هذه حقيقة لا تُنكر، ولكن هل تساءلنا لماذا تُحقق المشاريع المادية البحتة نجاحا كبيرا في دول العالم الثالث، بينما تفشل المشاريع المرتبط نجاحها على الجانب الإنساني، ويكون مقدار فشلها على مقدار ارتباطها بالجانب الإنساني؟
جواب هذا التساؤل سيكون مقال السبت، الذي سيمثل حال الدركة السفلى من طلب الحكمة والعلوم من الغير، عن طرق تصوير أسلوب من أساليب الدراسات الاستشارية الأجنبية.
المصدر: الجزيرة أون لاين