أكد رئيس مركز البحوث والتطوير في شركة أورانج للاتصالات نيكولا ديماسيو أن الشبكات الاجتماعية ليست مفهوما جديدا على الإنسان، مبينا أنها كانت متواجدة في الحياة اليومية وبكثرة، إلا أن الإنسان لا يلاحظها كونها جزءا من الطبيعة البشرية فالإنسان كائن اجتماعي بطبعه يميل إلى التواصل مع أفراد جنسه والانخراط في شبكات معهم، مثل الأسرة والأصدقاء وزملاء العمل والجيران، موضحا أن ما نطلق عليه الآن “شبكات التواصل الاجتماعي” هي نفس الشبكات الاجتماعية التي نعهدها، غير أنه تمت رقمنتها وإضافة مسحة تكنولوجية إليها.
من جانبه بين عالم النفس والطبيب الفرنسي المتخصص في تأثير وسائل الاتصال والصورة والتكنولوجيا على الشباب سيرج تيسرون خلال حديثه في ندوة لمجلة “العلم والمستقبل” الفرنسية بعنوان “هل تهدد الشبكات الاجتماعية عقولنا؟” بثها موقع قناة “فرانس 24” على الإنترنت أن نجاح وسائل التواصل الاجتماعي الرقمية يعود، في جزء كبير منه، إلى القدرة على إخفاء الهوية وتعميتها كما لو كانت لعبة “استغماية” وهو ما يتيح للإنسان لعب أي دور يريد.
إلا أن الباحثين الفرنسيين ديماسيو وتيسرون يتفقان تقريبا على أنه رغم هذا التغير الإيجابي الذي حبتنا به شبكات التواصل الاجتماعي، فإنها زادت أيضا حجم الضغوط الاجتماعية على الإنسان وعلى ردود أفعاله تجاه الآخرين، مبينين أن هناك آثارا جانبية لهذا النجاح على الشخصية والعقل الإنساني، فهي تؤدي -وفقا لهما- إلى انحراف الانتباه تجاه موضوعات سطحية لا تقترب قليلا أو كثيرا من احتياجاتنا ومشاكلنا الحقيقية، وذلك بسبب عدم القدرة على استيعاب هذا الكم الهائل من المعلومات التي نستقبلها، مشددين على أن هذا الانحراف يخلق مجموعة من العوائق التي تمنع الإنسان من تركيز والانتباه على ما هو ضروري معرفته، ويضيف تيسرون -وفقا لما بثه الموقع- بأن هذه الشبكات قد تؤدي لخلق مشاكل في العلاقات الحياتية الحقيقية؛ فالمعارك الرقمية قد تتحول إلى تضارب وتبادل للكمات بين الأشخاص المنخرطين فيها، هذا إضافة إلى المشاكل الخطيرة الناتجة عن سوء الفهم في التواصل مع الآخرين.
وحذر نيكولا ديماسيو مما سماه “مكافأة النجوم”، فالأشخاص الفاعلون بكثرة في محيط الشبكة الاجتماعية الرقمية يعطون انطباعا زائفا بسيادة رأي ما على هذه الشبكة، والدراسات أثبتت أننا كمستخدمين لشبكات التواصل الاجتماعي كلنا تقريبا لدينا الإحساس بأن أصدقاءنا مشاركون بفاعلية أكبر منا، ولكن الحقيقة هي أن ما يقل عن عشرين بالمئة فقط من أفراد الشبكة هم الأكثر اتصالية، وعندما تشاهد شريط أخبارك على فيس بوك، سيتولد لديك انطباع بأن وجهة نظر واحدة صحيحة هي ما يمثل الرأي العام، وهو ما يؤثر على وعينا بالعالم المحيط بنا.
ويضيف ديماسيو: “كلما زاد اتصالنا وتواصلنا بهذه الشبكات، كلما زادت كمية المعلومات المستقبلة، في البداية يكون الأمر سهلا، لكن بعد ذلك يصبح من المستحيل تقريبا إدارة واستيعاب هذا الكم الهائل من المعلومات الذي يشعرنا بالتخمة المعلوماتية، ورغم ذلك يصيبنا بالإدمان على استهلاك المعلومات والإحساس بالجوع والعطش المستمر للمزيد منها”، وينبه ديماسيو إلى ما يطلق عليه “التكاسلية” و”التواكلية” في الفعل الاجتماعي، فشبكات التواصل الاجتماعي مكان جيد جدا لنشر الأخبار، ولكنها أسوأ مكان لتطبيق الفعل الاجتماعي في الحياة الواقعية، فالتغريدة لصالح قضية ما أو نشر رأي يدافع عنها يعطي المغرد إحساسا مصطنعا بالمشاركة في فعل اجتماعي ما أو أنه يبذل مجهودا ضخما في هذا الإطار، في حين أنه لم يتحرك من مكانه.
ولفت تيسرون النظر إلى مقولة “الإنترنت يحولني إلى أبله” التي أطلقها الكاتب الأميركي نيكولاس كار، والذي نشر مقالات عن تأثير الإنترنت على المخ البشري، وهي المقولة التي تركز على مفهوم الضغوط الممارسة على الانتباه، والمغيرة بالتالي لنظرتنا تجاه العالم، وانطلق كار من افتراض أن الرسائل والنصوص القصيرة تؤثر في الأعصاب والمخ، ما يؤدي إلى فقدان القدرة على التركيز على مهام طويلة الأمد ككتابة المقالات أو قراءة الكتب.
وهي الفرضية التي، كما يقول تيسرون، حاول عدد من الباحثين التحقق من صحتها في تجارب نشر نتائجها في فبراير 2016 مجموعة طلاب كنديين من ناحية ممارستهم لكتابة الرسائل والنصوص القصيرة، وناحية سمات شخصياتهم والهدف الذي يعطونه لوجودهم في الحياة، وخلصت النتائج إلى أن أكثر الطلاب ممارسة لكتابة الرسائل القصيرة هم الأقل نزوعا لطريقة التفكير النقدي العميق والأكثر افتقارا لتحديد أهدافهم في الحياة.
بيد أن تيسرون يشدد على أن نقص التجارب العملية والطبية بالأشعة المقطعية على المخ يجعلنا نعتقد أن هذه العلاقة التي أظهرتها الدراسة ليست سببية لأنها لا توضح لنا ما إذا كان هذا الاستخدام هو ما يؤدي إلى تغييرات في العقل أم أن الأشخاص الذين يعانون أصلا من مشاكل في العقل هم الأكثر نزوعا لاستخدام هذه الأدوات.
ويضيف بأنه حتى الآن لا توجد إشارات تحذيرية واضحة من مخاطر الاستخدام المتوسط للشبكات الاجتماعية الرقمية على العقل، ولكن من المهم الانتباه لأمرين في غاية الخطورة، الأول هو أن استخدام وسائل التواصل الاجتماعي كأداة لتوجيه الفكر والسلوكيات والدعاية أمر طبيعي ولا يمكن تجنبه، فلطالما حاول الإنسان اختراع أدوات تؤثر في عقول المحيطين به، ولكن يجب أن نكون واعين إلى أننا غير مجبرين ولا مضطرين للقبول والتسليم بأول خبر أو معلومة نجدها على هذه الشبكات وأننا يجب أن نطور آلية الشك في المعلومات، فتنويع مصادر المعلومات على الإنترنت أحد أخطر التحديات التي يواجهها الإنسان المعاصر لأنه ينزع إلى مطالعة مصدر واحد للمعلومات يضفي عليه الكثير من المصداقية، وهذا التنويع هو الحل الوحيد من وجهة نظره وذلك لاستحالة التأكد من مصادر الأخبار على هذه الشبكات.
والأمر الثاني وفقا لموقع ( فرانس 24) يتمثل في أهمية تطوير ما يسمى بالتفكير الجديد والذي تمثله شبكات التواصل، وهو التفكير السريع السطحي ذو التركيز المعمق قصير المدى، وذلك بالتوازي مع التفكير التقليدي الذي يركز أكثر على المهمات العقلية طويلة الأمد، لأن الإنسان في النهاية يحتاج إلى هذين النمطين لتنمية قدراته العقلية.
المصدر: الرياض