كاتب و باحث سعودي
كم هو محزن أن يفقد الوطن خمسة وأربعين من خيرة أبنائه الفرسان الذين أفعموا بالفخر والولاء والطاعة، والإيمان العميق بواجبهم تجاه المستضعفين اليمنيين الذين حوصروا وعذبوا وانتهكت أراضيهم واستبيحت دماؤهم وأموالهم.
تحوي كتب التاريخ الإسلامي وموسوعات الأدب قصصاً متفرقة عن أبطال لفتوا في حومات الوغى انتباه القادة من ملوك وأمراء وسلاطين، وأثاروا إعجابهم، فأرسلوا إليهم ومثلوا بين أيديهم وغالباً ما كانت اللقيا باب سعد لمستقبل باهر لهؤلاء الأبطال. ويغلب على تلك القصص أنها عن أبطال مجهولين، في مقابل القليل منهم الذين عرفنا أسماءهم وقبائلهم والحواضر التي قدموا منها.
كان محمد بن حميد الطوسي النبهاني محارباً عظيماً، اختاره المعتصم العباسي لسحق ثورة شعوبية فارسية هددت الخلافة الإسلامية ونادت بالعودة إلى الديانات الوثنية القديمة، قاد تلك الاضطرابات بابك الخُرَّمي، ومع اشتداد الحصار على الطوسي وجيشه صمد حتى تكسرت في يده تسعة أسياف قبل أن يلفظ أنفاسه، وهو ابن اثنين وثلاثين عاماً، رثاه إثرها أبو تمام في واحدة من عيون الشعر العربي.
قبل الإسلام كان للعرب أبطالهم، وأساطيرهم من العظماء الذين تناقلت أصقاع الجزيرة أخبارهم وقصصهم، من كليب إلى المهلهل، إلى عنترة إلى عمرو بن كلثوم، وفي صدر الإسلام كان الزبير بن العوام وعبدالله بن رواحة وخالد بن الوليد وجعفر بن أبي طالب وعبدالله بن الزبير شخصيات ملهمة على مر العصور، وقصة البراء بن مالك اليافع ابن تسعة عشر عاماً شقيق أنس بن مالك، تلخص كيف جعلت منه مواقفه في حروب الردة بطلاً استثنائياً، وهو من قبل لم يكن إلا شاباً مغموراً لولا حصار الحديقة لما سطرت عنه كتب التاريخ شيئاً.
ولكن كما هو التاريخ دائماً، حيث يمكنه أن يكون سخياً مع القادة الكبار والفاتحين والملوك والأمراء، ولكنه شحيح في رواية البطولات الخفية لجنود صغار حسمت شجاعتهم الحروب أو أمالت الكفة أو أثبتت كيف يمكن للفخر القومي والوطني أن يكون ذا تأثير هائل ومثير للدهشة. أولئك الأبطال الذين لم يكونوا إلا جنوداً مخلصين مفعمين بالطاعة والإخلاص لقياداتهم وأوطانهم. وفي جزيرة العرب قبل قيام الدول الحديثة كانت القبائل والواحات المتحضرة تحتفظ بقصص ملهمة لفرسان من أبناء الصحراء كانوا على الدوام على أهبة الاستعداد للذود عن الحياض، والدفاع عن العشيرة والمرابع والشرف الرفيع.
ولكن كم في طي هذه الآلام اليومَ من نعمٍ في طيها مننُ! وأي فخر في هذا الفقد، وأي مجد في هذا الألم، وأي إلهام في ثنايا هذه المحنة! لقد توزعت إمارات الدولة أجداث خمسة وأربعين كوكباً، وتقاسم مواطنو كل إمارة الحزن والفقد، كما تشاركوا فيما بينهم المواساة والتكاتف والدعم، وفي الآن ذاته وحّدهم الفخر والمجد والاعتزاز بأبنائهم الذين جسدوا بمهجهم وحدة هذا البلد ومصيره الواحد وولاءهم لقيادتهم وولاة أمرهم. في مصهر هذه المحن تُبنى الأمم العظيمة، والشعوب الأبيّة.
لقد كانت الإمارات العربية المتحدة منذ أكثر من أربعة عقود نبراساً للعرب والعالم على الوحدة والإخاء والصمود أمام الاضطرابات والزلازل التي تحيط بها من كل صوب، وهي اليوم بإماراتها السبع تؤكد ذلك أكثر من أي وقت سبق، حيث تعمَّد هذا الاتحاد بالدم، بعد أن حمته الأنفاس والخفقات والعرق والمال والصدق والإخلاص.
فليرحم الله أولئك الفرسان الأبطال الذين يصدق في كل واحد منهم ما قاله أبوتمام:
تردى ثيابَ الموتِ حُمْراً فما دجا.. لها الليلُ إلاَّ وهْيَ مِنْ سُنْدُسٍ خَضْرُ
مضى طاهرَ الأثوابِ لم تبقَ روضةٌ.. غداة ً ثوى إلا اشتهتْ أنَّها قبرُ..
المصدر: الاتحاد