خاص لـ هات بوست:
انتهى عام وابتدأ آخر، تبادلنا التمنيات الطيبة وطلبنا من الله الخير، رجوناه تحقيق الأماني، فردية وجماعية، شملت الأهل والأصدقاء والجيران والبلاد، وبعضها امتد ليشمل العالم، وبعضها اقتصر على “المسلمين”.
في الآن ذاته، انتشرت التنبؤات واحتلت توقعات العرافين الشاشات ومواقع التواصل، ورغم أن الأمر مألوف في مثل هذا الوقت من السنة، لكن يبدو أن الغرقى الذين يبحثون عن القشة في ازدياد، يفتشون لعل البرج يبشرهم بمال وفير، أو فرج قريب، في ظل ظروف أقل ما يقال عنها أنها محبطة.
أما نحن المسلمين، وإن كنا لسنا بدع من الناس، فإن أعجبتنا التوقعات قبلناها وغضضنا النظر، وإن لم تعجبنا قلنا “كذب المنجمون ولو صدقوا”، و”من أتى ساحراً فقد كفر”. وفي أفضل الأحوال نعتمد الصيغ الجاهزة للأدعية الجماعية، ونتبادلها ونرددها معتمدين أن الله سيفعل ما نريد، فإن فعل ما يريد صدمنا وخابت آمالنا، وعدنا إلى البحث في ما قاله المنجمون.
على أن الأمر أبسط من ذلك بكثير، فانتهاج الطريق نفسه لن يوصلنا إلى هدف مختلف، ونحن ورثنا تلاوة كتاب الله لا قراءته، ولو قرأناه كما يستحق لعرفنا ألا أحد يعلم الغيب، حتى الرسول لم يكن يعلمه، فما بالكم بمتنبىء يلقي بكل ما يمكن من احتمالات للأحداث، فإن حدث شيء مشابه صدقنا كل ما جاء به.
ولو قرأنا كتاب الله لعرفنا أننا مسؤلون عن أعمالنا، والله تعالى لم يحدد لنا منذ الأزل أفعالنا، وإلا أصبح لا ذنب لنا بالشر الذي يمكن أن نرتكبه، كيف سيحاسبنا – حاشاه – على أمر ليس بيدنا، ولم يكن لنا فيه قرار؟ نعم {لَّن يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللّهُ لَنَا} لكنه لم يكتب لزيد أن يكذب، ولا لعمرو أن يسرق، إنما كل منهما اختار فعله، والكذب والسرقة من ضمن التركيبة التي كونت علاقاتنا كأفراد، وهذا التكوين وما يحدث لنا هو بين القوانين التي اختارها الله للوجود، مرض وصحة ورزق وقوانين فيزياء وكيمياء وتاريخ وغيرها، ونحن كخلفاء في الأرض علينا تطويعها لمصلحتنا جميعاً، فبالعلم يمكننا معالجة الأمراض واستخراج ثروات الطبيعة المسخرة لخدمتنا، والتغلب على تقلبات المناخ، وبدراسة التاريخ يمكننا أخذ العبر لبناء علاقات سليمة فيما بيننا، ووفق إحصائيات مبنية على أسس واضحة يمكننا استقراء توقعات للمستقبل، وعلى صعيد فردي يمكننا الدعاء لله ليوفقنا في تحقيق أمنياتنا.
ورغم أن الشعوذة وأتباعها موجودون في كل زمان ومكان، إلا أنها لا بد أن تنشط في بلداننا، ربما لأننا لا نعتمد عل العمل لتغيير واقعنا، بل نستكين بدعوى “القضاء والقدر”، رسخ في عقولنا أن الإيمان بالله يقتضي أن نلقي كل ما يحصل عليه سبحانه، وبالتالي نقبل الأمور كما تفرض علينا ونواسي أنفسنا أن الله أراد ذلك، مع أن الله تعالى حثنا في مواضع كثيرة من كتابه على التفكر والتعقل والتفقه والعمل والسير في الأرض وأخذ العبر، وتغيير ما في أنفسنا وعدم التمسك بما وجدنا عليه آباءنا، وأثنى على {وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمّاً وَعُمْيَاناً} (الفرقان 73)، وكونك تؤمن بالقضاء فأنت تؤمن أن الله يقضي ويتدخل أحياناً في تفاصيل حياتنا، لكن الإنسان يقضي أيضاً من خلال معرفته، فقضى مثلاً واكتشف لقاحات أنقذت الأطفال من الموت وأطالت أعمارهم، وقضى وحسّن ظروف الحياة بشكل عام، والله تعالى هو الذي شاء لنا أن نقضي، وحرر مشيئتنا من ضمن نفخة الروح التي ميزنا بها، لنسأل عن أعمالنا في العالم الآخر.
أما القدر فالأحداث بعد وقوعها تصبح قدراً لا يمكن تغييره، والموت قدر مؤجل حتى تتحقق أسبابه {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ الله كِتَاباً مُّؤَجَّلاً} (آل عمران 145)، ويمكن أن ينقذك الله من موت محتم ويؤجل موعده، لكنه أشار لنا أن المصائب تأتينا بما قدمت أيدينا، وعلينا أن نعمل لتغيير ظروف حياتنا ثم ننتظر التوفيق من الله تعالى، فالعلم والعمل واتخاذ القرارات المناسبة كلها أمور تساهم في السير نحو الأفضل.
قد نستمع للمشعوذين من باب التسلية ليس إلا، أما أن نصدق كلامهم ونعتمد عليه فهذا عجز كامل، فما بالك بالإستعانة بالجن والإيمان بقدرة أحد على تغيير واقعك ومستقبلك؟ ثم أليس من الشرك بالله الاعتقاد أن هناك من يشترك مع الله في العلم؟ فتنص إحدى الفتاوى مثلاً على أن: “يكفر الساحر إذا استعان بالجن في معرفة ما لا يقدر على معرفته إلا الله”، وهذا بحد ذاته إقرار أن الجن يشارك الله في المعرفة.
أما العين والحسد فشأن آخر، وإذا كان الله قد حذرنا من شر الحاسد، فلما يمكن أن يرتكبه من أفعال مؤذية، والشر فعل وليس مجرد نظرة عين أو قول أو إضمار حسد، والحاسد يؤذي نفسه أولاً قبل غيره، فإذا مرضت ابحث عن العدوى حولك قبل أن تحيل المرض إلى عين جارك، هذا أجدى وأقل غلاً.
في العام الجديد نتمنى أن تتحقق الأمنيات بعيداً عن العرافين والحاسدين، بل بالمحبة والعمل لتحسين ظروف الحياة على هذه الأرض لنا جميعاً.
كل عام وأنتم بخير.