كاتب سعودي
في ليلة السبت ما قبل الماضي، هجمت الصواريخ والطائرات الحربية الإسرائيلية على بعض المواقع الإستراتيجية في سورية، خاصة مراكز البحوث الصاروخية ومقرات بعض ألوية الحرس الجمهوري. إيران أدانت الهجمة الإسرائيلية على سورية وهددت وتوعدت، وكذلك العراق وبعض التنظيمات المقاومة في فلسطين ولبنان، روسيا والصين كقوى شرقية أدانت العدوان على سورية. إردوغان، شن هجوما عنيفا على الرئيس السوري، أثناء وبعد الغارات الإسرائيلية. القوى الغربية أيدت الهجوم وبررته. بعض الدول العربية أدانته وبعضها لاذت بالصمت.
أحداث هذا الأسبوع في سورية وردات الفعل الإقليمية والدولية الشرقية والغربية، وكذلك المحلية العربية، تعكس ما ورد في الجزء الأول من مقالي قبل أسبوعين، من حيث تحليل وإبراز أهداف المحاور في المشرق العربي، التي تمثل امتدادا للعمق الجيوتاريخي للقوى الإقليمية والدولية التي تتصارع على المنطقة. هنالك من يقول إن التاريخ يعيد نفسه، والحقيقة إن الجغرافيا هي من تعيد وتؤكد نفسها، وتعكس ذاتها وبأمانة على الواقع، حيث التاريخ لا يعدو دوره أكثر من مدون لما يجري على الجغرافيا من أحداث. صحيح أن “من لا يعي التاريخ يكرر أخطاءه” وهذا مؤكد، ولكن المؤكد أكثر هو أن “من لا يعي الجغرافيا محكوم عليه بأن يكرر حماقاته”، وفي المحصلة نحن نقرأ التاريخ لنعي ما أملته وما تزال تمليه الجغرافيا على البشر من أفعال وردات أفعال.
في الجزء الأول من المقال تم استعراض الصراع على منطقة المشرق العربي، قبل قيام الدولة العربية الإسلامية، بين القوتين الإقليميتين العظميين، إمبراطوريتي فارس والروم، حيث فارس تمثل مصالح وروح الشرق، والروم تمثل مصالح وروح الغرب. أهمية المشرق العربي بالنسبة لكلتا القوتين، يكمن في كونها المنطقة الجغرافية الفاصلة بينهما. أي أن من يسيطر عليها من أي منهما يهدد القوة الأخرى مباشرة، وبنفس الوقت كون المنطقة تعمل كمعبر ترانزيت للتجارة بين الشرق والغرب، وهو الذي يمثل الدخل الاقتصادي الرئيس الذي تعتاش عليه المنطقة، ومن الناحية الثقافية والمعنوية فالمشرق العربي مهد الحضارات الإنسانية القديمة ومهبط الديانات السماوية.
والنزاع على المشرق العربي يحتدم كلما حدث فيه فراغ استراتيجي، فكل قوة إقليمية أو دولية تحاول ملأه قبل القوى الأخرى، لتتحكم به وتحافظ على مصالحها، وتهدد مصالح خصومها فيه. وعندما تملأ قوة شرق عربية هذا الفراغ، يخف إن لم نقل ينعدم النزاع فيها وعليها، وتستثمر موارده البشرية والمادية والثقافية والمعنوية، وتتحول أوتماتيكيا لقوة عالمية فاعلة من النواحي الاقتصادية والسياسية والعسكرية والحضارية أيضا. وعندما تضعف قوة المشرق العربي الذاتية، يظهر الفراغ الاستراتيجي فيه، ثم تبدأ النزاعات بين القوى الإقليمية أو الدولية عليه.
وهذه الحقيقة الجيوتاريخية رسمت طابعها على المنطقة من آلاف السنين، حيث النزاع بين قوى الفراعنة ودول حضارات ما بين النهرين، وتلاها الصراع بين الفرس من جهة واليونان ومن ثم الروم ومن بعدها الدولة البيزنطية من جهة أخرى. ولكن بظهور الدولة العربية الإسلامية تم ملء هذا الفراغ الاستراتيجي بقوة ذاتية، جعلت المنطقة تعيش بأمن وسلام وتقدم، حتى أنتجت حضارتها العربية الإسلامية، التي جعلت منها قوة عالمية فاعلة.
وكما أوضحنا فالقوتان اللتان تتصارعان على منطقة المشرق العربي هما: فارس والروم، بتنوع مسمياتهما اللاحقة والسابقة وامتداداتهما الجغرافية شرقا وغربا. فكل قوة تقع جغرافيا شرق فارس، فهي بطريقة أو أخرى تعتبر مصلحة فارس تمثل مصلحتها، وكل قوة تقع جغرافيا غرب الروم، فهي بطريقة أو أخرى تعتبر مصلحة الروم تمثل مصلحتها. حاليا إيران ورثت مصالح فارس في المنطقة، وما يقع شرقا لها من قوى ترى بأن مصالحها تتقاطع مع مصلحة إيران في المشرق العربي، كما أن تركيا ورثت مصالح الروم في المنطقة، وما يقع غربها من قوى ترى بأن مصالحها تتقاطع مع مصلحة تركيا فيه.
في النصف الثاني من القرن العشرين، لم تعد منطقة المشرق العربي منطقة ترانزيت للتجارة العالمية، بفضل أساطيل الملاحة البحرية الضخمة التي تمتلكها القوى العظمى في العالم، وهذا من المفترض أن يخفف إن لم نقل يلغي الصراع بينها على المنطقة. ولكن ظهور النفط والغاز وبكميات ضخمة جدا فيه، والتي أصبحت تمثل عصب القوة الاقتصادية والعسكرية، جعلت الصراع عليه بين القوى الإقليمية والعالمية أشد وطأة وأشرس خطورة. وبنفس الوقت، جعلت ارتباط المنطقة بالعالم، ارتباط بقاء.
كانت مصالح المنطقة في القديم مرتبطة تجاريا بالروم من خلال رحلتي الشتاء والصيف، ثم أصبحت مصالحها الآن مرتبطة بالروم “الغرب” من خلال رحلات جميع الفصول، عبر رحلات بوارج حاملات النفط والغاز الضخمة من المنطقة للغرب، قلب ماكينة الصناعة ومركز التجارة العالمية وتموضع اقتصادها. وزيادة على ذلك فالروم “الغرب” هم من عمل على اكتشاف مصادر الطاقة في المنطقة وهم من أخذوا على عاتقهم حماية منابعها المحلية ومعابرها الدولية. إذا كانت وما زالت مصالح المشرق العربي التجارية مع الروم، وعليه فمناصبة العداء للروم، ليس مطلبا استراتيجيا لها، أي ليس ولم يكن إرثا جيوتاريخيا للمنطقة؛ ولذلك فأعصاب المنطقة لا تتحمل صراعا أو نزاعا جديا وطويل الأمد مع الروم، ولا نتخيل بأن قوة في المنطقة جادة في ذلك ناهيك عن أن تتحمل أعباءه.
العداء بين فارس والروم، كان وما زال مطلبا استراتيجيا لكل منهما تجاه الآخر، وهذا جزء لا يتجزأ من إرثهما الجيوتاريخي، الممتد لآلاف السنين. أي بأن النفس العدائي بينهما طويل وعميق، والصراع بينهما لا يؤثر على أعصاب أي منهما حيث لا يستغنيان عنه إلا إذا أراد أي منهما التخلي عن مصالحه القومية الاستراتيجية، والتي تمثل جزءا من بقائه. ولذلك فالفراغ الاستراتيجي في المشرق العربي، يجعل منه ساحة رحبة لصراعاتهما ونزاعاتهما عليه. إن محادثات 5+1 بين فارس والروم، والمتعلقة بالسلاح النووي الإيراني، تدل على أن خمسة دول غربية كبيرة مجتمعة، تعتبر إيران، بما تمثله من إرث جيوتاريخي فارسي ندا لها في المنطقة.
كانت المحاور السياسية المحلية القديمة في منطقة المشرق العربي قبل قيام الدولة العربية الإسلامية، توازن بين مصالح كل منهما، “المناذرة” في العراق و”الغساسنة” في الشام حيث الأولى تحمي مصالح فارس والثانية تحمي مصالح الروم، مما خلق توازنا استراتيجيا في المنطقة حفظ لها نوعا من السلام والرخاء. الآن القاعدة الرومية “إسرائيل”، في عمق المشرق العربي، جعلت التوازن أكثر صعوبة إن لم يكن مستحيلا. فارس لن يقر لها قرار، وقاعدة رومية متمركزة وسط المشرق العربي، تسعى جاهدة لملء فراغه الاستراتيجي لصالح الروم. تركيا رأس الحربة الرومية في المنطقة لن يقر لها قرار، وهي تشاهد كلتا مملكتي المناذرة في العراق والغساسنة في الشام تشكلان محورا لـ”فارس”، يحيط بها استراتيجيا من الجنوب. للمقال تتمة.
المصدر: الوطن أون لاين