صنّاع كتاب.. صنّاع حضارة

آراء

عندما نذكر الشارقة تتوارد إلى الذهن حزمة من المفردات القيمية والجمالية، يأتي في مقدمتها الثقافة، بكل ما تحيل إليه من أبعاد إنسانية، وعندما نذكر الثقافة فنحن نتماس بصورة أو أخرى مع الكتاب بوصفه حجر الأساس في أي مشروع ثقافي مثل الذي دأبت الشارقة على رعايته وتنميته على مدار خمسة قرون من الزمان.

يجمع الذهن دائماً وعن حق بين مفردتين باتتا متطابقتين، وأعني الشارقة والكتاب، ولا بد أن يتوقف مندهشاً أمام نشاط صاحب السمو الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي عضو المجلس الأعلى حاكم الشارقة، هذا الرجل العاشق للكتاب، يستيقظ على القراءة وينام عليها، ومن أجل ذلك ارتبطت مكتبته الشخصية بغرفة نومه، حاكم لا يكل ولا يمل من أجل رعاية الكتاب وتقديم كل ما من شأنه الارتقاء به.

سلطان الحاكم المثقف الذي زرع فحصد، وأسس لقوة ناعمة تصل للعقول قبل القلوب، بالأمس القريب رأيناه يطلق المعجم التاريخي للغة العربية ويفتتح معرض الشارقة للكتاب، واليوم يحتفل بمرور مئة عام على تأسيس مكتبة الشارقة العامة، وبينهما لا راحة أو هدوء، يصدر سموه هذا الكتاب أو يحضر افتتاح مهرجان الشعر العربي أو يشاهد إحدى المسرحيات أو يعلق على معلومة وردت هنا أو هناك ويعمل على تصويبها، أو يكتب بحب في التاريخ، حياته مكرسة للثقافة، منحها كل شيء، فأصبح أباً لجميع المثقفين العرب.

ولم يتوقف التأثير عند هذا الحد، بل أورث سموه هذا العشق إلى جيل جديد لتستمر قصة الكتاب متوهجة، تقدم للبشر كل ما يفيد ويمكث في الأرض، من هنا ندهش أيضاً لنشاط مماثل لا يهدأ تقوم به الشيخة بدور بنت سلطان القاسمي، رئيسة مجلس إدارة هيئة الشارقة للكتاب، فقبل سنوات طويلة أسست مجموعة «كلمات» للنشر، وارتقت بصناعة النشر، وتولت أكبر مؤسسة عالمية معنية بهذا القطاع، الاتحاد الدولي للناشرين، وبدورها نراها هنا وهناك، وهو نشاط مطمئن ويمنحنا الثقة، فالثقافة في الشارقة باتت مؤسسية وفي أيد أمينة، وخططها المستقبلية مضمونة، والاستثمار فيها يؤتي نتائجه.

يحق لسموه أن يحتفل بمئوية مكتبة الشارقة، ففي ذلك أكثر من مغزى ودلالة، ويطيب لنا أن نحتفل معه، ونظرة واحدة إلى تاريخ هذه المكتبة تؤكد أنها تحولت إلى قصة تستحق أن تروى، أسست على يد الشيخ سلطان بن صقر القاسمي في العام 1925، وأطلق عليها المكتبة القاسمية، وبعد ذلك انتقلت إلى قاعة إفريقيا ثم المركز الثقافي في الشارقة فالمدينة الجامعية وصولاً إلى ميدان قصر الثقافة، أي أنها كانت في كل مكان تذهب إليه تكتب فصلاً جديداً في حكاية الشارقة أو حكاية الكتاب لا فارق.

ترحل المكتبة وتجذب إليها عيون المثقفين وقلوبهم، لكن في الشارقة ستشعر دائماً بأنك في حضرة كتاب، وكأن كل الطرق مخطوطة بكلمات تخبرك بأنك هنا في حضرة الشارقة أو حضرة الكتاب على وجه الدقة.

أشعلت الشارقة قبل مئة عام شمعة تنير الدرب للبعض آنذاك، بعض المستنيرين الذين وضعوا اللبنة الأولى في البناء، وكبرت تلك الشمعة وتوهجت وأضاءت للجميع، ولم يتوقف نورها على الشارقة وحسب، بل امتد الضياء إلى العالم العربي من الماء إلى الماء، وهناك قبس منه في الكثير من بلدان العالم، شاهدنا ذلك في احتفاء معارض الكتب العالمية بالشارقة، وفي تتويجها بلقب العاصمة العالمية للكتاب عام 2019.

عندما نحتفل بمكتبة فنحن في الحقيقة نحتفل بالحضارة، فكل شركاء صناعة الكتاب، هم على وجه الدقة حاملو مشعل التمدن، والرسالة واضحة والدلالة مفهومة، فنحن في الإمارات نمد أيادينا إلى الجميع، وفي مقدمة ما نستطيع أن نضيفه إلى الآخرين يأتي الكتاب ليخبر العالم بأننا كنا في مقدمة الركب يوماً ما وها نحن نلحق به مرة أخرى.

عندما نحتفل بمئوية مكتبة، فنحن مرة أخرى نحتفل بالشارقة وبحاكمها المستنير، وبمشروعه المثمر، نحتفل بحاكم عربي عشق الكتاب، وجعله خبزاً للجميع نجده في كل مكان نذهب إليه، ليس في الشارقة وحسب، ولكن في أمكنة في الخارج حملت إصداراتها إشارة أو لفتة إلى دعم الشارقة.. دار الكتاب.

لا يمكن لنا إلا أن نفرح بتلك المناسبة ونهنئ أنفسنا، ونهنئ صاحب السمو حاكم الشارقة، على اختياره المبكر لدرب الكتاب، والذي من خلاله أصبحنا معروفين في الدنيا بأسرها بأننا صناع كتاب.. صناع حضارة.

المصدر: الخليج