كاتب وإعلامي سعودي
بدأت مدننا تتنفس الحياة والفرح بعد سنين من العزلة الفنية عن العالم المحيط بنا، وذلك من خلال عودة الحفلات الغنائية لبعض الفنانين السعوديين والخليجيين والعرب وبعض الفرق الموسيقية الغربية التي «شدت» بموسيقى عالمية في العاصمة الرياض، ولا أنسى الحفلة الغنائية للعائلات، التي أقيمت في مدينة الملك عبدالله الاقتصادية، وآخرها الحفل الذي نقل على بعض القنوات التلفزيونية من أبها وحضره وشاهده الملايين.
هذه الانطلاقة الفنية الجديدة في المملكة لا شك أن لها انعكاسات إيجابية على المجتمع المحلي في نواحٍ عدة، فمرحلة مطاردة فنانينا في الحفلات التي كانت تقام في الخارج انتهت إلى غير رجعة، وهذا سيعزز من حضور الأغنية السعودية في الداخل والخارج، والذي كادت أن تفتقده في السنوات الماضية، ولا شك في أن صناعة الفن ستزدهر لدينا، وهي أحد الروافد الاقتصادية المهمة، على رغم أن البعض يقلل من ذلك ليس لأسباب منطقية، ولكن لأسباب مؤدلجة معروفة للجميع، بحيث نجد رموز من يعارضون الفن والموسيقى لدينا يرفعون شعار الخطر على منظومتنا الأخلاقية، بدواعي خطورة الاختلاط والتغريب وباقي الأسطوانة المعروفة، وللأسف أن هذا الخطاب المتشدد خطف عقول الكثير منا، وأوجد تناقضات في شخصية البعض منهم، فهؤلاء مثلاً لا يمانعون في حضور الحفلات والسينما في دول قريبة منا، بل إن بعضهم يحضر مهرجانات مختلطة، وبحسب طرحهم يبررون ذلك والجماهير تصدقهم، كل ذلك بسبب خطابهم الديني وكأنهم هم فقط المدافعون عنه فقط.
لا شك في أن الانفتاح الفني في الداخل بكل أشكاله من غناء وسينما ومسرح وغير ذلك يعتبر نقلة نوعية مهمة، وإعادة تشكيل ثقافة أحادية ظلت مسيطرة عقوداً طويلة. إن هذه الجهود سترفع من درجة السعادة والفرح لدى شعبنا، وتجعله يعيش بحب مع واقعه الجميل، وليس كما كانت الحال في السابق عندما أصبحت بلادنا بيئة طاردة للفرح، وقد يكون لهذا التوجه الجديد تعزيز لشخصية الإنسان، ولا يكون ضعيفاً أمام خطاب متشدد قد يجره إلى منظمات إرهابية، بسبب الخواء النفسي وكره الحياة واستعجال الرحيل عنها ولو على أشلاء جثث أناس مسالمين، في المقابل نجد رموز محاربي الفن والحياة يعيشون وأولادهم في الغرب ويسافرون إليه، وهذا حقهم، ولكن لماذا التحريم واختزال الدين فيهم وتحريمه على الناس؟
إن محاربة التشدد والتطرف، والانفتاح والقبول بالآخر وعدم الوصاية من فئة أو جماعة هي مطالب وطنية وملحة في مرحلتنا المقبلة، ولا شك في أن الفنون هي من أهم الأدوات إلى جانب العديد من الوسائل في هذه الحالة، ومن أهمها التعليم والإعلام، وعصرنهة الخطاب الديني، ومحاسبة من يتهم المجتمع بالفجور وسقوط الأخلاق لمجرد حضور حفلة أو مشاهدة فيلم سينمائي في مكان عام عليه إشراف رسمي من نواحي التنظيم والمحتوى. علينا عدم الالتفات إلى من يدعون إلى خصوصية زائفة لمحاربة الحياة والفرح، فمجتمعنا متنوع بثقافاته وفنونه، وهذه ميزة جميلة علينا تعزيزها من خلال المناشط الثقافية والفنية، فهناك الفن الحجازي والجنوبي والنجدي وفنون البحر في الشرق وغيرها من مناطق وطننا الغالي، وهذه ميزة علينا العمل عليها لتعزيز قوتنا الناعمة، بدلاً من الاتهامات التي ترمى علينا بأننا مجتمع منغلق ومتشدد، بسبب قلة منا ترفع هذا الشعار لتحقيق مصالح شخصية وسياسية لها ولأتباعها. يجب على الجهات الرسمية الانطلاق في هذا التوجه، وإعطاء القطاع الخاص الفرصة للاستثمار في تأسيس وإقامة الفعاليات الفنية من مسارح ودور سينما وحفلات غنائية، ويمكن البدء في إدخال تعليم الموسيقى والفنون في المراحل الدراسية المبكرة، وخصوصاً أن رؤية 2030 تنص في إحدى مبادراتها على إنشاء مجمع ملكي للفنون، والذي نأمل ألا يتأخر كثيراً، فبناء الإنسان الطبيعي هو الأساس في كل المجتمعات المحبة والمنطلقة في حياتها.
المصدر: الحياة