عاشوراءُ في السعودية: روحٌ وطنيةٌ والتزام!

آراء

لم يكن موسماً عادياً، كان تحدياً على كافة الصُعد: صحياً، تنظيمياً، أمنياً، ونفسياً.

هل تتمُ إقامة مراسم عزاء عاشوراء في السعودية، أم يكتفي الناسُ بالجلوس في منازلهم، ومتابعة “البث المباشر” عبر الإنترنت والفضائيات؟

نقاشاتٌ كثيرة جرت قبل شهر محرم، وآراء عدة؛ فحفظُ النفسِ ومنعُ وقوع الضرر الناتج من فيروس كورونا المستجد، وتقليل نسبِ الإصابة، أمورٌ أساسية مهمة لا يمكن التساهلُ تجاهها، ويجب أن تكون أولوية مقدمة على ما سواها.

في الوقت ذاته، هنالك عاطفة دينية جياشة، لا تتعلقُ بموسم عاشوراء وحسب، بل، الرغبة في توطيد العلاقة مع السماء، والاحتماء بالروحانية، ضد المجهول، لعلَّ المستقبل الغامض يكون أقل قتامة!

تجاوزت مراسم عاشوراء هذا العام دلالاتها الدينية، لتتحول إلى مسعى لـ”التشبث بالحياة”، والخروج من أجواء “الحجر الصحي”، والتنفس تحت سماء واسعة اشتاق لها الناس. لذلك هي نوعٌ من “التعافي النفسي” أكثر من كونها طقساً دينياً خالصاً.

لم يكن المواطنون في السعودية وحدهم من يتوقون إلى ممارسة حيواتهم. نظرة بسيطةٌ حولنا ستجعلُ المرء يبصرُ الشواطئ المزدحمة، بركُ السباحة، النوادي، المقاهي، المشارب، المطاعم، وسواها، في مختلفِ دول العالم.

هنالك من يلتزمُ بالاشتراطات الصحية، وهنالك من يتساهل، فضلاً عن من ما زال يعتقد أن “كوفيد-19” ما هو إلا مجرد “هراء” أو “مؤامرة”!

العبورُ الناجح

كان اختباراً صعباً، وتحدياً صحياً كبيراً مرَّ بسلام حتى الساعة؛ ووكالات الأنباء وشبكات التواصل الاجتماعي، تناقلت مئات الصور والفيديوات، لمراسم إحياء عاشوراء في مدنٍ وقرى وبلداتٍ عدة شرق السعودية، لعل أشهرها تلك المشاهدُ من ساحة “القلعة” وسط محافظة القطيف، حيث احتشدَ آلاف المؤمنين متباعدين عن بعضهم بعضاً، وسط حضور أمني، ومتابعة من الطواقم الطبية، تحسباً لأي طارئ.

العبور بـ”عاشوراء” إلى بر الأمان، ما كان ليتم لولا التعاون الحقيقي بين المواطنين والمسؤولين عن المآتم والهيئات الأهلية من جهة، والأجهزة الحكومية السعودية من جهة أخرى، وتحديداً: الصحة، أمن الدولة، الداخلية، المحافظة، دائرة الأوقاف والمواريث، وإمارة المنطقة الشرقية التي كانت بمثابة الناظم المُتابع الذي يديرُ العملية، ويشرف عليها أمير المنطقة سعود بن نايف بن عبد العزيز آل سعود.

هذا التعاون الذي ازدادت وتيرته بسبب “كوفيد-19″، ليس موقتاً، بل هو أمرٌ جرت عليه العادة منذ سنوات، لأن حفظ النظام من مسؤوليات الأجهزة الرسمية، التي تنهضُ به، وتطور آلياته وخططه بالتنسيق مع الوجهاء والأهالي، عاماً بعد عام.

الجميع اتفق على التالي: هنالك مواطنون لديهم شعائرهم الدينية، التي تكفلُ لهم الدولة ممارستها بحرية. وهنالك ظرفٌ صحيٌ استثنائي، يجب أن تنتظم فيه الاحتفالات وفق الاشتراطات الوقائية من دون تساهل؛ وهنالك مسؤولون عن الأوقاف عليهم تنظيم المساجد والحسينيات والتأكد من أعداد الحضور، ودرجات حرارتهم، وسلامتهم، فضلاً عن التعقيم المستمر، والإلتزام بالتباعد الاجتماعي.

تواصلتُ بشكل يومي مع أصدقاء من جهات أهلية وحكومية عدة، الجميع اتفقَ على أن: أجواء الارتياح العام هي السائدة، وليس هنالك ما يعكرُ صفو المشهد، الذي جسد معنى “المواطنة” والعمل المشترك.

التعاون المستمر

الأجواء الإيجابية التي طبعت موسم عاشوراء في السعودية هذا العام، لم تكن وليدة لحظتِها، بل جذورها تعود لسنوات خلت.

العام الفائت، وأثناء إحياء المراسم العزائية في محافظة القطيف، كان مدير مباحث المنطقة الشرقية اللواء أحمد العيسى، على رأس وفد رفيع من ضباط وأفراد جهاز “أمن الدولة”، قام بزيارة عدد من الشخصيات الدينية والمآتم في محافظة القطيف.

العيسى الذي يمتلكُ احتراماً واسعاً، ورؤية حديثة من خارج الصندوق تجاه القضايا الوطنية المختلفة، زار “حسينية السنان”، حيث التقى السيد منير الخباز، الفقيه السعودي البارز، كما ذهب أيضاً إلى “مجلس الحاج سعيد المقابي”، الذي يلقي فيه الشيخ حسن الصفار محاضراته، وهو واحدٌ من الشخصيات المعروفة على مستوى المملكة.

الوفد الذي توزع على مجموعتين زار أيضاً: حسينية “النهاش”، ومنزل القاضي السابق الشيخ عبدالله الخنيزي، وحسينية أخرى في بلدة العوامية، وهي البلدة التي شهدت اضطرابات على مدى سنوات، بسبب بعض المجاميع الخارجة على القانون، والتي نفذت أعمالاً إرهابية، كانت موضع إدانة من أهالي العوامية وشخصياتها الاجتماعية، وجاءت زيارة الوفد لمجلس العزاء هذا، لتقول: إن الأمن مستتب، وإن هذه البلدة محل اهتمام المسؤولين في المنطقة الشرقية.

لم يكن اللواء العيسى وفريقه في جولة عادية، بل كانت رسالة واضحة من “رجل دولة” أن السعوديين سواسية، تكفلُ لهم الدولة حقوقهم، ولا تقبل أي أمرٍ يخلُّ بالأمن أو يحرّضُ على العنف أو الكراهية أو الطائفية، وأن “القانون” هو السيد على الجميع.

هذا الوفد المُنتقى بعنايةٍ من “أمن الدولة”، تمثيلهُ الرمزي لا يقتصرُ على الجهاز الذي يرأسه معالي عبدالعزيز الهويريني، وحسب؛ بل يتعدى ذلك ليُعطي رسالة واضحة أن “الوطن للجميع”، وأن “المواطنة” لا سواها هي المعيار. وهو ما أكد عليه الملك سلمان بن عبد العزيز، وولي عهده الأمير محمد بن سلمان، في أكثر من مناسبة، بأن السعوديين جميعهم متساوون، عليهم ذات الواجبات ولهم ذات الحقوق، رافضين أي تصنيف على أساس مناطقي أو قبائلي أو مذهبي.

مبادرات أهلية

حملة “إطعام وإسهام”، التي دشنت أول أعمالها المصورة عام 2013، بفيديو مدته نحو 3 دقائق، أثار جدلاً واسعاً حينها، عادت هذا العام لتنشر في 15 آب (أغسطس) فيلماً قصيراً من إخراج السيد فاضل الشعلة، مدته نحو 5 دقائق، حمل اسم “صحنُ بركةٍ”، لقي انتشاراً واسعاً، كونه يعالجُ مشكلة سنوية، ألا وهي: إهدارُ الطعام في موسم عاشوراء. حيث جرت العادة أن يُقدم المؤمنون تبرعاتٍ سخية، تصرفُ على شكل موائد طعام، توزع على الأهالي والمنازل.

الشعلة في العملِ الذي قدمه، يقترح أن يقنن هذا “الإطعام”، وأن يتحول إلى مفهوم أوسع، ألا وهو “الإحسان”، المتمثل في: مساعدة من فقدوا وظائفهم، أو لم يستطيعوا سداد إيجارات منازلهم، أو سرق الموت أحبتهم، جراء فيروس “كوفيد-19”. وهو بذلك يخرجُ “الإطعام” من كونه طبقاً يغذي الجسد، إلى طبقٍ رمزيٍ يرفدُ العقل والروح ويمنح السعادة والقوة والفرح للمحتاجين.

مبادرة أخرى، امتداد أيضاً لمواسم سابقة، هي “حملة التبرع بالدم”، وهي حملاتٌ كان المواطنون في محافظة القطيف سباقون إليها. فعِوضَ هدرِ الدم في بعض الممارسات “البدائية” البعيدة من روح “الحسين بن علي”، وفيها انتهاكٌ لإنسانية الفرد؛ بدلَ هذا الهدر “العبثي”، تواصل المعزون في تقديم الدمِ للمستشفيات الحكومية، في حملة نظمها “مستشفى القطيف المركزي”، لأن في ذلك إحياءً للأنفس، ومساعدةً للمرضى، وسعياً لمقاربة مدنية عقلانية، قبالة بعض الممارسات الماورائية الشعبوية.

البناء على النجاحات

هذه التجارب والمبادرات المدنية لاحتفالات أكثر وعياً وحيوية، يجب أن تدفع الجميع إلى البناء عليها من جهة، وتجاوز أي سلبيات قائمة؛ والأهم أن تساهم في عملية تخليقٍ غير تقليدية للأفكار، كي لا يكون المجتمع حبيس أنماطٍ قديمة، وصناديق عتيقة، بل عليه أن يطرح أسئلة عن: الإصلاح الديني، ودور الدين في المجال العام، وكيف يمكن أن نخرج بهكذا تجارب نحو تجاوز الطقوسية، إلى روحانية أوسع، وعقلانية أشمل، وعمل مؤسساتي منظم، يغربلُ الخطاب الديني، ولا يجعلُ “المنبر الحسيني” نهبةً لكلِ من جاء بعلمٍ أو دونه، لأن “الإصلاح” و”التغيير” نحو فكرٍ حُرٍ يصنع المستقبل، ويتجاوز آلام الماضي وأحزانه، هو أمرٌ في غاية الأهمية.

مهامٌ ليست بالسهلة، لكنها ضرورية، وباتَ لِزاماً التحولُ من مجرد “إحياء الشعيرة” إلى “إحياء روح الدين”، الذي يتجاوز الشكل إلى المعنى، ويخرجُ من ضيقِ العقائدِ إلى سعة الإنسانية، ولا ينجرُ إلى المعارك المذهبية أو النزاعات السجالية العقيمة.

قوة التنوع

ما تقدم هو جزء من مشهد إصلاحي واسع في السعودية، يؤمن بأن التنوع الثقافي والاجتماعي والمذهبي، عنصر قوة، وليس مصدر تناحر وشقاق، كما كان يروج المتطرفون من مختلف المذاهب.

السعودية اليوم تسيرُ بروح وطنية جامعة، غير مرتهنة لعقدِ الماضي، لإيمانها بأن المستقبل لا يمكن أن يُصنع إلا من خلال الشراكة بين الجميع، وأن هذا الثراء البشري المعنوي والثقافي، هو رأسمال حقيقي؛ الأهم أن يتجلى عبر مشاريع مدنية حديثة، وهو ما أثبتت الأجيال الجديدة في المملكة قدرتها عليه.

المصدر: النهار العربي