كاتب إماراتي
تعلمتُ قبل مدة لعبة جماعية اسمها (مافيا). جميلة وفيها كثير من الدهاء والحِيَل، ولكن الأجمل من ذلك أنك لابد أن تمارسها مع مجموعة لا تقل عن 7 أشخاص. لا تحتاج فيها إلى أجهزة إلكترونية، لا هواتف، لا إنترنت، ولا شيء غير أصدقاء، وساعات جميلة تقضونها في مساء لطيف. وقبل أيام مررتُ بمحل للألعاب في أحد المراكز التجارية، فدخلته لأرى ما الجديد لديهم. وهي عادة لم أتوقف عن ممارستها، ليس فقط لأعرف ماذا أشتري لأطفالي أو لأطفال العائلة في المناسبات، بل أيضاً، حتى لا أفقد اتصالي بذكريات الطفولة. وربما هي محاولة بائسة مني للتعلق بجذور البراءة والنقاء، واجترار أحاسيسي في تلك الأيام التي كانت تخلو من كره أو حقد، فأقصى خطيئة يمكن لطفل أن يرتكبها هي أن يغار مِن أتْرابِه. خلال جولتي في محل الألعاب تفاجأتُ، أو رُبما صُدِمْتُ، عندما وجدت أن غالبية الألعاب الجديدة لا تمت للتكنولوجيا بِصِلَةٍ، فمعظمها كانت ألعاباً بدائية: أوراقا، أحجارا، نردا، وغيرها من الأدوات البلاستيكية والمعدنية التي يستخدمها لاعبو (مونوبولي) الشهيرة.
خرجتُ من المحل وأنا أفكّر في لعبة (مافيا) وأتساءل لماذا أخذت تنتشر بين الناس بسرعة كبيرة؟ ولماذا تنتشر في ذاك المحل ألعاب بدائية؟ ثم فكّرتُ أكثر: لماذا عادت صيحات الأزياء الكلاسيكية إلى الأسواق، كالنظارات، والساعات، والملابس، بل حتى السيارات بدأت تستعيد أشكال الستينيات والسبعينيات؟ ما الذي يجري في العالم؟ هل فقد الإنسان قدرته على الإبداع؟ أم سئم منه؟ أم تَعِبَ في البحث عنه؟
لا أدري، ولكن ما أشعر به هو أن العالم يحاول العودة لذكريات أشبه بالجذور اليابسة، لم تتحلل وتُرح التربة وتقلل استهلاك الماء، ولم تبقَ يانعة لتسقي ما فوقها. تماماً مثل «سِكْراب» السيارات الذي إذا نقّبتَ فيه قليلاً فستجد أشياء ما عادت صالحة للاستخدام ولا للبيع، ولكن مالِك السكْراب يُبقيها فيه آملاً في أن يزوره صاحب سيارة قديمة ويجد عنده شيئاً يشتريه.
وقبل أيام كتب أحدهم في إنستجرام: «يا إلهي، تطبيق اجتماعي جديد!» حيث بدا متذمّراً من حمى التطبيقات الاجتماعية التي من كثرتها فقد الناس شغفهم بالتكنولوجيا أو ربما بالحياة، وكلما اشترى أحدنا تطبيقاً جديداً، شعر بعد أيام بأنه صار «دقّة قديمة» وعليه أن يقفز على التطبيق الأحدث، ثم الأحدث.
والسؤال هو: هل علينا أن نتخلص من الجذور ونريح الشجرة اليابسة فوقها؟ أم نعيد تأهيل التربة علّ الجذور تعاود التمدد من جديد؟ أكتب هذا المقال وأنا في رحلة بين جبال الألب لتصوير برنامجي الرمضاني (ما قل ودل)، وفي خضم القرى التي مررتُ بها، والغابات التي تغلغلتُ فيها، والجبال التي اقتربتُ منها، لم تَبْدُ للجذور أي قيمة، لكن ذلك لا يبدو أزمة أيضاً. أكتبُ الآن في قرية صغيرة فوق ربْوة ساكنة، تُطل على بحيرة، وقد تجاوزت الساعة العاشرة مساء، إلا أن جيراني كلهم نائمون، وحده نورٌ خافتٌ في طرف الشارع يُشعرني بوجود حياة. قُلتُ لصديقي: «ما بال هؤلاء ينامون مثل الدجاج؟ ألا يشاهدون التلفاز؟ ألا يستخدمون تويتر وفيسبوك وإنستجرام وسناب شات وستوري هاوس…!».
كنت أظن أن الإعلام الاجتماعي – وسأتجاوز عن هذا الاسم الكلاسيكي بتسميته (السوشيال ميديا) – مكاناً للصعلكة، يكون فيه الناس على حقيقتهم، بسيطين ثائرين، لا منمِّقين ولا متصنعين، إلا أن الحقيقة التي تبينت لي أن السوشيال ميديا هو المكان الأكثر خداعا في العالم، هو كل شيء ما عدا الصدق والشفافية والعفوية. هو عالم ميت الجذور لكن جذوره استبدلت بأخرى صناعية، تكبر وتصغر تبعا (لـفهلوة) الإنسان، ورقيّه أو ربما انحطاطه، وهذه هي الأزمة التي لا يعاني منها جيراني.
العالم يحتاج الصعاليك اليوم أكثر من أي وقت مضى، يبحث عن الألعاب التي لا تستثير العقل، ولا تعزز الوحدة، تلك التي نتشارك فيها مع الآخرين في جلسة برية، تموت فيها بطاريات هواتفنا ولا نجد حرجاً في ألا نعيد شحنها. لا أقصد بالصعاليك أي الثائرين على حكوماتهم، وبيوتهم، وأعرافهم، فأولئك مخربون. بل الثائرين على الطموح، على التغيير، على الشهرة، والإبداع، على المكسب القادم، والفرصة القادمة.. وعلى كل شيء قادم.
عندما كتبت كلمة (صعاليك) حَوّلها المدقق اللغوي في هاتفي إلى (ثعالب).. ياه، ما أجمل هذا الوصف الذي أتقنته الآلة، وكأنها تقول لي اكسرني واهرب مني، وانسَ جذورك أيضاً، وعِش كإنسان لا كالناس، ثم لا تشعر بالذنب، كالثعلب تماماً، الذي لا جذْرَ له إلا نفسه.
المصدر: الشرق
http://www.alsharq.net.sa/2015/04/18/1330190