لم ألتق الدكتور عبدالرحمن الوابلي – رحمه الله – في حياتي، وليست بيني وبينه أية علاقة، سوى علاقة القارئ بكتّاب الرأي في الصحافة، وكأي مشاهد سعودي أو خليجي، فإنني طالما شاهدت اسمه يدخل البهجة إلينا من خلال مسلسلي طاش ما طاش أو سيلفي الشهيرين. لذلك فأنا هنا لست في مقام تعداد مناقب المثقف الراحل، ولكنني في حال رثاء شديد، لوطن يريد له بعض متشدقي التدين أن يكون متجهماً، عبوساً، مظلم القسمات كحال قلوبهم.
توفي الوابلي، لكنه فتح جرحاً عميقا ولا شك، لا أظنه يندمل، رحلت نفسه إلى مقام ربٍّ غفور رحيم كريم عطوف لطيف بعباده، وتركتنا نكابد أرواحاً شريرة، لا تنفك تذكرنا كلما تعلقنا بذلك بأن الله شديد العقاب! يتلذذون في كبت الأمل، ويتفننون في انتزاع حسن ظننا بربنا، كل ذلك باسم الإسلام، الذي هو من غيّ أهوائهم براء.
بين السعي في نبش تاريخ مسلم أصيل بنيّة إخراجه من دائرة الإسلام بكل إصرار وترصد، و«ادعائهم» بأنهم دعاة إلى الله، ينثر أولئك حقدهم الدفين على مساحات الخير والرجاء، تاهوا، مثلما تاهت في ذواتهم معاني سمو ديننا ورفعته. وما بين محبة نبينا لعمه أبو طالب وحزنه عند موته، والتشدد في تصديرهم وتصويرهم للولاء والبراء، يجتهد هؤلاء ومن أضلوهم في تشويه معالم إسلامنا!
دخلت إندونيسيا في الإسلام بسبب التجار المسلمين، لا بالسيف، لتكون اليوم أكبر بلاد العالم الإسلامي من حيث تعداد السكان، في المقابل ينتشر مرض الإلحاد في بلادنا، ففتشوا عن «متعالم» أحمق متحاذق، يتحدث من خلال لحيته وشكل ثوبه فقط، ويوقّع عن الله بكل صفاقة وتكبر وعناد، كأن مفاتيح الغيب والجنة باتت في غياهب جُبّ عقله الفارغ، إلا من الخصومة والكراهية والبغضاء. إنهم أولئك الذين طالما أعجبتهم فقط غلظة عمر بن الخطاب، وتغافلوا عن حكمته وخشيته من الله، وعدله حتى مع غير المسلمين، ولو كان ذلك العدل قصاصاً من المسلمين أنفسهم، إنهم يشتاقون لدرة عمر، بما ينقمونه على مخالفيهم، وما علموا أنها كانت ستتدحرج على رؤوسهم بسبب تكلفهم وغلوائهم في الدين، وتجبرهم وتسلطهم على الناس بحجة امتلاك الحق المطلق، وما سواهم مجاهيل، عوامٌ من دونهم، لا يصلحون لشيء من أمر الدين والدنيا.
جاء عبدالله بن عبدالله بن أبي إلى النبي يسأله في خبر أبيه رأس المنافقين، ويستأذنه في أن يقتله هو دون غيره من المسلمين، إن كان قد صدر حكمه فيه بالقتل، بعد مقولته الشهيرة: «لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل»، يقصد بالأعز نفسه، ويشير بالأذل إلى مقام النبي الأكرم، فما كان من نبينا صلى الله عليه وسلم إلا أن قال: «بل نترفق به ونحسن صحبته ما بقي معنا». فليحدثنا أولئك المتنطعون بعد كلمات النبي تلك عن تأثيرها في نفس الابن عبدالله، وهل استجاب لتوجيه النبي فترفق وأحسن إلى أبيه، أو أنه عصاه كما يفعلون هم مع من يختلف مع توجههم من المسلمين؟ يجيب عن ذلك طلب الصحابي الجليل قميص النبي ليكفن به والده بعد موته، ويجيب عن فجور خصومتهم مع معارضيهم، بل ودعائهم عليهم بعد وفاتهم، فعل النبي، عندما صلى على جنازة ابن سلول، معلوم العداء للإسلام والمسلمين، وقوله: (إنما خيرني الله، أو أخبرني فقال: «إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم» وسأزيد عن السبعين). ومما يصح نقله في هذه المقالة، ما ورد عن نبينا في قصة قتلى معركة بدر من المشركين، فبعد أن أمر النبي بجثثهم أن تلقى في البئر، رأى حزن أبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة على أبيه وهو يُسحب إليها، فقال له: كأنك كاره لما رأيت، فقال: يا رسول الله، إن أبي كان رجلاً سيداً، فرجوت أن يهديه ربه إلى الإسلام، فلما وقع الموقع الذي وقع، أحزنني ذلك. فلم يعنف النبي أبا حذيفة، ولم يقرّعه على موقفه من والده «المشرك» بالله، الكافر بنبيه، ولكنه واساه بدعائه له بالخير. هذا هو ديننا الذي غمسه المتطفلون عليه بجهلهم، ليشوهوه بهمزهم ولمزهم، وتسلقهم عليه بتشددهم.
أبشروا يا آل الوابلي، فإن ما كان من مخالفي عبدالرحمن، قد أحيا ذكره، وجعل حتى من لا يعرفونه يترحمون عليه، ويستغفرون له، وما لحق بابنكم وبكم من أذى صنيع المتطرفين، محتكري التدين، لم يكن إلا مما تكرهون، وهو خير له بإذن الله.
المصدر: صحيفة الحياة