يحتار النقاد والمتلقون وهم يطلعون على سيرة ونتاج الشيخ الراحل عبد الله بن خميس أن يمنحوه صفة واحدة تعكس أعماله بعد أن عاش تسعة عقود قضاها في العمل الإداري والبحث العلمي ليصبح أحد رواد الإعلام والأدب والتاريخ والصحافة في بلاده، إلا أن المادة العلمية المكتوبة التي تركها وأنجز الكثير منها وأثرى بها المكتبة السعودية تعطي الحق لكل متابع لأعمال الراحل أن يصفه بـ«موسوعة الجزيرة العربية»، حيث أثرى بها المكتبة السعودية والعربية من خلال تسعة مؤلفات تضمها 20 مجلدا تقع في عشرة آلاف صفحة في مجال التاريخ والجغرافيا، وثلاثة دواوين شعرية تحتوي على أكثر من 150 قصيدة، بالإضافة إلى إرث فريد في الموروث الشعبي حيث الأدب والتراث والجغرافيا والتاريخ والشعر من خلال مؤلفات في هذا الاتجاه، أبرزها: «الأدب الشعبي في جزيرة العرب»، و«راشد الخلاوي» ترجمة رائعة لهذا الشاعر الشعبي، وكتابيه «أهازيج الحرب» (أو «شعر العرضة»)، و«رموز من الشعر الشعبي تعود لأصلها الفصيح»، وفي التجربة الإعلامية أسس الراحل صحيفة «الجزيرة» ورأس تحريرها لأربع سنوات، وبرنامجه الإذاعي «مَن القائل؟»، بالإضافة إلى مئات المقالات والقصائد والمحاضرات والندوات في شتى مجالات الثقافة والمعرفة والسياسة والاقتصاد والتاريخ والجغرافيا وقضايا المجتمع ومقومات التنمية.
كان الراحل، حسب إشارة ابنه المهندس عبد العزيز، يقرأ أو يكتب أو يدون تحت ظل شجرة أو طلحة تقيه لواهب الصيف، أو في ذرى خيمة أو كهف أو صخرة تحميه غضب مزمجرات الشتاء.. أو أن تلقاه في كلتا الحالتين مجالسا لأعرابي يستقي منه معلومات المكان والزمان. لقد بدأ رحلة البناء والعطاء والمعرفة من فوق ظهور المطي، وأينما سالت بأعناقها الأباطح، ولاحقا على ظهور السيارات والطرق الوعرة والمسافة الطويلة المرهقة، بل ومن فوق متون الطائرات، واختصر أدباء ومثقفون ومفكرون الحديث عن حجم ومكانة الراحل ببضع كلمات تعطي انطباعا صادقا لمآثره ومعاناته وعصاميته في البحث والتأليف، حيث وصفه الدكتور عبد العزيز خوجة وزير الثقافة والإعلام بـ«مكتبة في رجل»، وقال عنه الأديب الراحل عبد الله نور: «إنه شاسع كالصحراء، عميق كليلها، متلألئ كنجومها»، وقال عنه الدكتور حمد المانع إنه «رحالة دوّن التاريخ بمداد الأدب».
وسجل الراحل عبد الله بن خميس حضورا في بلاده كأديب وشاعر وناقد وباحث ورمز ثقافي ورائد من رواد الصحافة في الجزيرة العربية، محققا سلسلة من النجاحات في المهام التي أوكلت إليه وتسنم إدارتها، تاركا سفرا خالدا من المؤلفات والمعاجم تجاوزت الـ24، بالإضافة إلى مئات الأبحاث المختلفة التي غطت جوانب مختلفة في مجالات الأدب والثقافة والجغرافيا والتاريخ والشعر وكتابات جريئة تناولت قضايا النفط والمياه في بلاده، وعددا من القضايا الاجتماعية والاقتصادية والسياسية المتعددة، مما يجب معه أن يطلق عليه لقب «موسوعة الجزيرة» وقائد الحملات الصحافية الجريئة وغارس بذور اليقظة الاجتماعية والوطنية في السعودية.
ترك ابن خميس، الذي غادر والده مع جده الدرعية إلى ضرما (40 كيلومترا غرب الرياض) بعد تخريبها عام 1818م ليعود إلى بلدته الأصل بعدما عادت الأمور إلى مجاريها، بصمات تدين له وتعترف بفضله وجهوده في خدمة جغرافية وتاريخ وصحافة بلاده.
وقد تأثر الراحل بمجلة «الرسالة» وبأسلوب صاحبها أحمد حسن الزيات، حيث يذكر محمود رداوي في كتابه عن ابن خميس وآثاره الأدبية أن صلته بالزيات «صلة قديمة.. صلة قراءة، صلة لقاء وصداقة أدب، لا صداقة أرب»، وكانت مجلته «الرسالة» هي المفضلة والصديق له من بين سائر المجلات، ولقد كان الزيات أستاذه الأول والأخير في تكوين قلمه.
ونوه محمود رداوي بدور ابن خميس في الحركة الصحافية السعودية وبدور مجلته الشهرية في ازدهار العمل الصحافي أولا. وفي خدمة قضايا المجتمع، والإرهاصات التي كان يستشرف بها المستقبل الأفضل، وقال عنه إنه يعي جيدا أهمية الصحافة في نهضة الشعوب، وفي غرس بذور اليقظة الاجتماعية والوطنية، وكونها وجها من وجوه الفكر المعاصر ولونا من ألوان الثقافة، وأنها أصبحت علما من العلوم، كما هي فن من الفنون. وأضاف في كتابه: «إن من يدرس تاريخ الصحافة في المملكة لا يمكن أن يتجاهل دور مجلة (الجزيرة) وصاحبها في فترة من الفترات الحرجة والحاسمة في تاريخ المملكة».
ثم يصف محمود رداوي كيف تعامل ابن خميس الأديب مع قضايا السياسة من منظور صحافي فيقول: «على أن تحليله السياسي يظل مصبوغا بألوان أدبية بلاغية، فهو يحيل النص السياسي إلى نص أدبي والرؤية السياسية تستحيل إلى رؤية نقدية.. لذلك كانت كتابات ابن خميس الصحافية تخرج عن نطاقها الرسمي والآني الصحافي لتحلق في أجواء سامية وأبعاد متألقة للفن الأدبي والنثر الرفيع».
وإذا ما تصفح الباحث في «فواتح الجزيرة»، والمقالات الصحافية التي كانت يحررها في مجلته، يجد أن ابن خميس قد تبنى قضايا اجتماعية واقتصادية وسياسية متعددة ومهمة وفي مقدمتها شؤون فلسطين، كما أفسح المجال واسعا للقلم النسائي بالتوقيع الصريح ولمناقشة قضايا المرأة، وقاد حملات صحافية جريئة، من بينها شؤون العمل والحفاظ على الهوية الإسلامية والعربية للمجتمع بأسلوب ينبض بالصدق والحماسة والوطنية والأصالة والتراث. ولقد قال ذات مرة إنه كتب في مواضيع المياه ما قد يصل حجمه إلى كتاب، ويظل كتاب «فواتح الجزيرة»، على الرغم من مرور عقدين على جمعه وإصداره، يتجدد ويزداد قيمة ووزنا، وإن كان لا يتضمن كل المقالات التي كتبها في مجلته بسبب جرأتها.
ترك الراحل ابن خميس قائمة بـ24 عنوانا لكتب ألفها، وهي: «الأدب الشعبي في جزيرة العرب»، «الشوارد» (ثلاثة أجزاء)، «المجاز بين اليمامة والحجاز»، «شهر في دمشق»، «على ربى اليمامة» (ديوان شعر)، «الديوان الثاني» (ديون شعر)، «راشد الخلاوي»، «بلادنا والزيت»، «من أحاديث السمر»، «معجم اليمامة» (جزآن)، «من جهاد قلم» (في النقد)»، «من جهاد قلم (محاضرات وبحوث)»، «من جهاد قلم (فواتح الجزيرة)»، «الدرعية»، «أهازيج الحرب أو (شعر العرضة)»، «معجم أودية الجزيرة» (جزآن)، «مَن القائل؟» (أربعة أجزاء)، «تاريخ اليمامة» (سبعة أجزاء)، «معجم جبال الجزيرة» (خمسة أجزاء)، «رموز من الشعر الشعبي تنبع من أصلها الفصيح»، «جولة في غرب أميركا»، «رمال الجزيرة (الربع الخالي)»، «تنزيل الآيات على الشواهد من الأبيات» (تخريج وتقديم)، «أسئلة وأجوبة من غرائب آي التنزيل» (إعداد).
الرياض: بدر الخريف
المصدر: الشرق الأوسط