عدد من الطالبات داخل حرم جامعة الأميرة نورة في الرياض التي تعد مثالا على عزم الحكومة على الارتقاء بالتعليم.
مجموعة من النساء يرتدين العبايات السوداء عند مدخل مركز غرناطة شمالي الرياض، حتى المطر المنهمر لا يستطيع أن يثنيهن عن الدخول إلى مهرجان تسوق موعود بالداخل.
الوقت الآن هو موعد الإغلاق في مساء يوم في منتصف الأسبوع، والناس متجمعون بأعداد كبيرة، تواقون إلى التفرج على محال السلع الاستهلاكية التي لا تحصى، بما فيها سبعة محال للملابس النسائية الداخلية و22 محلاً للمجوهرات والساعات.
يقول سعودي وهو يتحدث عن هذه الحركة التي تتكرر كل ليلة عبر العاصمة الواقعة في منطقة صحراوية: ”إذا خرجتَ بعد الثامنة والنصف، فسترى هذه الجموع. إن ما يحدث يثير الذهول. إنهم يشترون كل شيء”.
هؤلاء المدمنون على التسوق هم إحدى العلامات الظاهرة لطفرة اقتصادية تمسك بتلابيب السعودية. ففي مختلف أنحاء العالم يرتبط اسم السعودية – أكبر بلد مصدر للنفط في العالم – بالثروة الضخمة، وفي الوقت الحاضر تنفق الرياض أموالها بحرية لم يسبق لها مثيل.
تتهادى الأموال في أدراج النقود وفي البنية التحتية لهذا البلد الذي يعتبر القوة المهيمنة في الخليج، وذلك بفضل الدخل المتصاعد من النفط، وهناك برنامج ضخم للإنفاق الحكومي وإجراءات كاسحة لتوظيف السعوديين. حتى الذين يشككون في عمق واستدامة هذه الاتجاهات العامة يتفقون على أن هذا البلد المحافظ، الذي يبلغ عدد سكانه 26 مليون نسمة، يُظهِر نية جديدة بصورة جذرية حول إحداث تغييرات عميقة في الاقتصاد.
مشاريع بناء
وفي برنامج للبناء سابق للربيع العربي، أطلقت السعودية مشاريع صناعية تراوح من أكبر مصنع للألمنيوم في العالم، إلى مشروع مشترك مع شركة النفط الصينية المملوكة للدولة ”سينوبك” لإنشاء معمل تكرير ضخم على ساحل البحر الأحمر. كذلك تعتزم السعودية إنشاء مئات الآلاف من المساكن الجديدة، في الوقت الذي بدأ فيه السعوديون بالتدفق إلى القطاع الخاص، الذي يهيمن عليه الأجانب منذ فترة طويلة. وتعتبر جامعة الأميرة نورة بنت عبد الرحمن، المخصصة للإناث، والتي تمتد مبانيها على طريق المطار في الرياض، أحدث مثال على برنامج يهدف إلى بناء أو تحسين عشرات من مؤسسات التعليم العالي، في حين أن الحكومة أنفقت مليارات الدولارات على تعليم نخبة تتألف من عشرات الآلاف من السعوديين في الخارج.
يقول رجل أعمال سعودي يمتلك مصالح واسعة ومزدهرة في قطاع الإنشاءات: ”من المؤكد أننا نشتعل نشاطاً وحماسة، بفضل الحكومة، والوضع الاقتصادي، والطلب على النفط، وكل شيء آخر بينهما. وفي مكتبه يوجد علم كبير يعلن مشروعا جديدا للسكة الحديدية بطول 2400 كيلو متر، يربط بين شمالي المملكة وجنوبيها.
هذا الاندفاع الاقتصادي ينطوي على أهمية اقتصادية مذهلة بالنسبة للمنطقة وما وراءها. فحجم السوق السعودية – يزيد عدد سكان المملكة على عدد بلدان الخليج الخمسة الأخرى مجتمعة – يجعلها مصدر جذب وإغراء للشركات الأجنبية، خصوصاً القادمة من الاقتصادات الغربية المعتلة. وبالنسبة للأهداف الاستثمارية الخارجية للحكومة البريطانية تشكل السعودية ”فرصاً عالية القيمة” تزيد على أية دولة أخرى باستثناء الصين.
مركز الملك عبد الله المالي، الذي لا يزال قيد الإنشاء، يعد أحد المشاريع الاستراتيجية في السعودية.
تحول اقتصادي
جهود السعودية الرامية إلى تحويل نفسها من دولة نفطية بالدرجة الأولى إلى قوة اقتصادية تشكل كذلك جزءاً حيوياً من الاستراتيجية السعودية. ويدرك الزعماء السعوديون دور الاستياء الاقتصادي في إشعال المظاهرات في بلدان عربية أخرى يتزايد فيها عدد السكان وتعاني البنية التحتية من القِدم، ونقص فرص الوظائف.
يقول الأمير الوليد بن طلال: ”الثورات التي وقعت كانت عبارة عن نداءات للصحوة بالنسبة لكثير من الناس في المنطقة وفي السعودية كذلك. لقد نبهونا إلى نقاط الضعف الموجودة لدينا”.
والمحركات الرئيسية لما يرجو البعض أنه اليقظة السعودية التي طال انتظارها هي مقبوضات النفط التي سجلت أرقاماً قياسية، وبرنامج الإنفاق الحكومي البالغ 130 مليار دولار – الذي لا يزال معظمه بانتظار الصرف – الذي كشف النقاب عنه الملك عبد الله في أوائل 2011. وتشير تقديرات صندوق النقد الدولي إلى أن نمو القطاع الخاص غير النفطي في المملكة سيصل هذا العام إلى 7.6 في المائة، مدفوعاً بمجالات مثل الإنشاءات والتصنيع والتجزئة، في حين يظل القطاع النفطي على حاله إلى حد ما. وتقدر احتياطيات الرياض من العملات الأجنبية التي تؤمن للحكومة وقاية مفيدة، بأنها تزيد على 500 مليار دولار.
كما أن الخبراء السعوديين الحكوميين المتمرسين بشؤون المال – مثل وزير المالية إبراهيم العساف، الموجود في المنصب منذ سنوات طويلة 1966 – مهتمون بالتقليل من الحديث عن البذخ في الإنفاق ويسعون إلى السيطرة والتحكم في الأموال، سعياً لتحقيق نمو قوي ويتجنبون الاندفاع بسبب خبرتهم من حالات الانهيار السابقة.
وقال محمد الجاسر، وزير الاقتصاد والتخطيط، في مؤتمر مالي نظمته مجلة ”يوروماني” في الرياض هذا الشهر: ”أنا كبير في السن بما فيه الكفاية لأكون موجوداً في الثمانينيات، حين كانت أسعار النفط متدنية للغاية، واضطررنا للجوء إلى عمليات اقتراض ضخمة للمحافظة على حركة اقتصادنا”.
ومع ذلك حجم صفقة التحفيز يتمتع ببلاغة تتحدث عن نفسها – وعن متطلبات البلاد. ورغم جميع ثروتها النفطية، تعتبر السعودية أقل غنى بكثير من جيرانها الصغار، حيث إن حصة الفرد من الناتج المحلي الإجمالي في السنة الماضية لم تبلغ حتى ثلث حصة الفرد في قطر، في حين أن عدد سكان المملكة يضع ضغطا على البنية التحتية. وتعاني أجزاء من الرياض أزمة مرورية خانقة يوميا، وهو وضع يزداد سوءاً بسبب واردات السيارات، التي يقدرها أهل الصناعة بأنها تقع بين 700 ألف ومليون سيارة سنوياً.
السعودة
كذلك تواجه السعودية مسائل سكانية تفوق بكثير ما لدى جيرانها في الخليج. ويشكل السعوديون أكثر من ثلثي إجمالي عدد السكان، ما يوجد طلبا على الوظائف على نحو غير موجود في البلدان المجاورة، حيث يشكل المواطنون أقلية صغيرة.
وتقول الرياض إنها بدأت الآن في تحقيق الوعود التي قطعتها منذ سنوات بتوظيف السعوديين في القطاع الخاص، وهو ما يعرف بالسعودة. من الناحية التاريخية كان العمال الأجانب يعملون في وظائف متدنية الأجر من التي يرفضها السعوديون الذين يتمتعون بمنافع الإسكان والدعم الحكومي للسلع الاستهلاكية والرواتب العالية في القطاع العام. وهذا الوضع آخذ في التغير، في الوقت الذي تحاول فيه الحكومة كبح إنفاقها الاجتماعي ومواجهة الضغوط من أجل توظيف مزيد من النساء – خصوصاً بعد حملة شهيرة قامت فيها الحكومة بإنهاء وضع غير سليم متمثل في أن العاملين في محال بيع الملابس النسائية الداخلية كانوا كلهم من الرجال. يقدر وزراء ورجال أعمال عدد السعوديين الذين يعملون خارج الحكومة بأنه تضاعف تقريباً إلى أكثر من مليون شخص منذ البدء في تطبيق البرنامج في أيلول (سبتمبر) 2011، في حين أن السلطات أعطت الشركات مهلة حتى تموز (يوليو) للوفاء بالحصص الجديدة لعدد العاملين السعوديين، وإلا فإنها ستفقد تراخيصها.
طفرة تنموية
يلاحظ أحد ملاك سلسلة مكتبات جرير، التي تبيع أشياء كثيرة من الكتب إلى الإلكترونيات، إن كثيراً من السعوديين في المناطق الحضرية يشعرون في الوقت الحاضر أن لديهم وفرة من المال بفضل برنامج تحفيز الإنفاق الحكومي وارتفاع معدلات التوظيف.
ويقول إن ”هذه طفرة صحية، وليست فقاعات”. ويضيف أن أعماله في النشر مزدهرة بفضل الكتب الرائجة التي تبحث في مواضيع من كتب التعليم والإرشاد الذاتي إلى روايات أجاثا كريستي التي يكثر فيها عدد القتلى.
لكن السعودة – شأنها في ذلك شأن البرنامج الاقتصادي – لديها منتقدوها. تدعي بعض الشركات أن التدفق القادم من العمال السعوديين غير المدربين وفي بعض الحالات غير الراغبين في العمل، الذين يضمن لهم القانون حداً أدنى من الأجور، يؤدي إلى تدمير الناتج وهوامش الأرباح. وفي حين أن البرنامج ساعد في إدخال مزيد من النساء إلى سوق العمل، إلا أن عددهن لا يزال صغيراً.
وبصورة أوسع، الدعاية المصاحبة لعملية السعودة التي لا تزال متواضعة، والإنفاق الحكومي الكبير، يرفعان كذلك من سقف التوقعات، وخيبة الأمل، لدى عدد من الذين لا يزالون عاطلين عن العمل.
ويقول رجل أعمال من جدة: ”الجميع يرون المليارات، لكنهم لا يستطيعون العثور على عمل. علينا أن نعثر لهم على فرص”.
وهناك عقبة كبيرة أخرى أمام طموحات السعودية، وهي ما يعترف المسؤولون الحكوميون بأنه الافتقار المزمن إلى الإنتاجية، المرتبطة بالدعم الحكومي السخي في مجالات مثل الإسكان والوقود. ويقول الجاسر إن هذه الهبات ”تعمل بصورة متزايدة على تشويه” الاقتصاد. ويقول منتقدون إن الدعم المقدم للمنتجات النفطية، الذي يربط سعر البنزين عند مستويات أقل من نصف دولار للجالون، أو 25 دولاراً لتعبئة خزان سعة 50 لتراً، هو أحد الأسباب الرئيسية التي تجعل الرياض تستهلك كميات متزايدة من إنتاج الخام السعودي من أجل إنتاج الكهرباء في الداخل.
وهناك عقبة محتملة أخرى هي الصورة الموجودة في الأذهان بأن السعودية غير ودودة تجاه الشركات مقارنة بجيرانها الخليجين، الذين يسمح بعضهم للشركات بأن تعمل دون شريك محلي وتعرض حياة اجتماعية أكثر انفتاحاً. ويقول خبير أجنبي يسافر في رحلات جوية كثيرة من وإلى الرياض، إن السعودية تشكل فقط 20 في المائة من الأعمال الإقليمية لشركته، في حين أن حجم الاقتصاد السعودي يعني أنه يفترض أن تشكل قريباً من 50 في المائة من أعمال الشركة. ويقول: ”في السعودية أنت بحاجة إلى كفيل محلي”.
مقدار التغير
مسيرة الرياض البطيئة نحو الثورة الاقتصادية أكثر عمقاً واهتماماً بالتفاصيل – وأكثر أهمية ودلالة – من كونها مجهودات فجة لمواكبة بريق الدوحة أو أبو ظبي. وفي حين أن بعض السعوديين ينظرون نظرة يشوبها الحزن إلى السكان المدللين في قطر والإمارات، إلا أنهم يريدون كذلك تجنُّب ما يشعرون أنه التضحية بالهوية الاجتماعية والاقتصادية الناتجة عن غرس الثقافات الأجنبية ونقلها إلى دول الخليج الأخرى.
وقد ولدت المملكة العربية السعودية على يد آل سعود عام 1932، ويغلب عليها أن تدخل في تحالفات دولية – خصوصاً مع الولايات المتحدة – وفي الوقت نفسه تتسم بتأكيد استقلالها الذي تقدر عليه بسبب ثروتها وحجمها.
ويقر كثيرون بأن الخطط الاقتصادية السعودية تتحرك – مثل الإصلاحات الاجتماعية – ببطء وتتطلب تحولاً ثقافياً كبيراً من أجل النجاح. وأهم ما في الأمر أن السعودية بحاجة إلى إثبات أن عصر الوفرة المدعومة بالنفط يقوم بأكثر من مجرد إشعال هوس التجزئة وحمى الشراء في مركز في المراكز التجارية.
ويقول مسؤول سعودي مخضرم: ”لا يزال الناس يعتمدون اعتماداً كبيراً على الحكومة ويعتمدون كثيراً على إيرادات النفط. لكن السؤال المهم هو: ما مقدار التغير الذي سيحدث، وما المدة اللازمة كي يكون التغير كافياً؟”.
المصدر: الاقتصادية