لقد ذكرت في مقالة سابقة في صحيفة «الشرق الأوسط» (بتاريخ 14 يناير (كانون الثاني) 2016م حول سياسات النظام الإيراني الطائفية تدمر التعايش السلمي بين المسلمين) أن السياسات الإيرانية القائمة على مبدأ عسكرة الخلافات الطائفية بين المسلمين، سوف يكون لها آثار كارثية على المنطقة. وقد لا يخفى على أحد أن نتائج تلك السياسات أصبحت واضحة للعيان في العراق، وسوريا ولبنان. فالعراق يعاني اليوم من دوامة من الصراعات المسلحة يأخذ البعد الطائفي فيها مساحة واسعة. وحين خرج الشعب السوري للمطالبة بالحقوق والكرامة بطرق سلمية واضحة وشعارات إصلاحية تمت مواجهته من قبل النظام الأسدي بالقتل والاعتقال والتعذيب، واصطفت إيران ومعها ميليشيات طائفية من لبنان، والعراق، إلى جانب النظام السوري، حيث ارتكبت تلك الميليشيات الكثير من الفظائع في حق الشعب السوري. كما أدت سياسات النظام الإيراني لعسكرة الخلافات الطائفية ليس زعزعة أمن المنطقة فقط، بل إلى وضع المشهد السياسي اللبناني على كف عفريت. وهكذا أصبح لبنان حتى اليوم يعيش في فراغ رئاسي وبرلماني خطير بسبب «حزب الله» وممارساته الطائفية. فمن خلال الدعم والتبني الإيراني السياسي، والمالي، والعسكري، أصبح «حزب الله» دولة موازية للدولة اللبنانية سياسيا وأمنيًا. وهو عين ما رأيناه في اليمن عبر استخدام الانقلابيين والحوثيين قوة السلاح ضد الشرعية في اليمن، وإصرارهم على خوض الحرب وتدمير المدن اليمنية وتفتيت إرادة الشعب اليمني عبر التحزيب الطائفي.
وانطلاقًا من اهتمامي بقضايا الحوار والتعايش بين أتباع الأديان، أو أتباع الدين الواحد، فأكثر ما يثير قلق الغالبية العظمى من المسلمين هو الآثار الكارثية لظاهرة عسكرة الصراعات الطائفية على وعي وضمير العالم الإسلامي. فقد تأكد لكثير من المراقبين أن تأسيس الميليشيات الطائفية المسلحة هو من السمات التي تتفرد فيها إيران بعد سيطرة «حزب الله» على المشهد اللبناني، وتخطيط النظام الإيراني لتوسيع تأسيس الميليشيات في أماكن أخرى في العالم العربي والإسلامي. فعلى الرغم من أن استخدام الورقة الطائفية في الصراعات السياسية ليس أمرًا غير معهود في التاريخ العربي والإسلامي، فإن تأسيس ميليشيات طائفية مسلحة يعد بادرة خطيرة في التاريخ العربي والإسلامي ستؤدي لا محالة إن استمرت بهذا المنوال إلى حروب طائفية لا يعرف مداها.
إنني على يقين بأن النظام الإيراني يهدف من خلال عسكرة الصراعات الطائفية في المنطقة العربية إلى تحقيق غايات سياسية لها علاقة بالمصالح القومية الإيرانية. وقد تستطيع إيران تحقيق بعض أهدافها من خلال هذه السياسة العدائية. إلا أن السؤال الذي يطرح نفسه في هذا السياق هو: ما الثمن الذي سوف تدفعه شعوب المنطقة نتيجة لهذه السياسة؟ إن التجربة التاريخية تعلمنا أن الخلافات الطائفية تستمر لفترات زمنية طويلة، وفي معظم الأحيان هي غير قابلة للحسم. كما تعلمنا التجربة التاريخية أن المجتمعات الإنسانية لديها القدرة على إدارة الخلافات الطائفية والدينية، ما دامت تلك الخلافات في إطارها المذهبي والديني ولم تتلوث بالسياسة. ولكن عندما تتحول تلك الخلافات الطائفية إلى اقتتال بين أتباع الطوائف والمذاهب، فإن الجروح تستغرق أجيالا كثيرة حتى تندمل. ومع الاقتتال القائم على أساس طائفي، فإن الحديث عن الحوار والتعايش يصبح صعب المنال، لأن صوت الرصاص أصبح يفوق صوت العقل. وحتى مع نهاية الاقتتال الطائفي المسلح، فإن المرحلة التالية قد تشهد الانتقام وتصفية الحسابات في أسوأ الأحوال أو انعدام الثقة والكراهية المعطلة لقيم الحوار والتعايش في أحسن الأحوال.
كما أن سياسات إيران بنشر الميليشيات الطائفية المسلحة في المنطقة لها انعكاسات سلبية على قدرة العالم الإسلامي على الحوار والتواصل مع الآخرين. فالمذابح والفظائع التي ترتكبها الميليشيات الطائفية المسلحة، وما يقابلها من فظائع ترتكبها التنظيمات الإرهابية في المنطقة، تجعل الغالبية العظمى من المسلمين غير قادرة على التفاعل البناء مع الحوار، وجمع الكلمة للتعامل مع العالم الخارجي. فخلال السنوات الأخيرة، لاحظت كثرة ترديد القادة الدينيين غير المسلمين شكواهم من عدم وجود توجهات عامة موحدة لدى القيادات الدينية المسلمة المشاركة في الحوارات العالمية، تمكنهم من الحوار الفاعل والمثمر مع أتباع الأديان الأخرى. بل إن البعض أشار إلى أنه في بعض الأحيان أصبح تنظيم حوار بين المسلمين وغير المسلمين أكثر سهولة من تنظيم الحوار بين المسلمين أنفسهم. وهذا الوضع هو نتيجة متوقعة لعسكرة الصراعات الطائفية في المنطقة.
ومن هنا تأتي أهمية ما اتخذته الدول الإسلامية، وفي مقدمتها المملكة العربية السعودية، والمجتمع الدولي من مبادرات لمنع إيران من التمادي في سياسات عسكرة الخلافات الطائفية في المنطقة. فلا يمكن لثقافة الحوار والتعايش أن تزدهر في العالم الإسلامي ما دام هناك من يعمل على عسكرة الخلافات الطائفية في المنطقة. إن تلك الخلافات الطائفية يمكن إدارتها والتعامل معها من خلال الحوار الإيجابي بين الفرقاء. ولكن حتى يتسنى للحوار أن ينجح، لا بد أن تتغير سياسات تصدير وتأسيس الميليشيات الطائفية في العالم العربي والإسلامي، وأن تصمت بنادق تلك الميليشيات والحشود الطائفية لبناء تفاهم وتعاون مشترك يؤسس لتعايش لا بد منه وإن طال الزمن.
المصدر: الشرق الأوسط