كاتب وإعلامي سعودي
الدعوة إلى التفكير في الخيار العلماني بالسعودية ترسخ فكرة الدولة الحكم التي لا تنحاز لتيار ضد آخر، وفي نفس الوقت، تمنع أي تيار من فرض أجندته على الآخرين.
لا أميل لشعارات “الإسلام هو الحل”، أو “العلمانية هي الحل”، فالإسلام دين وليس حلا أو مشكلة، ولأن هذه الشعارات تسطيح يحمل في طياته رومانسية مفرطة ومستحيلة، ولعلي أرى أن أي فكرة أو منهج ممكن أن يحمل مقدمات الحلول أو طريقها، فحصر حل واحد لجميع المشاكل غير منطقي وغير واقعي.
موضوع حاكمية الشريعة طرِح متأخرا في تاريخ المسلمين، ولم يكن موضوع جدال في دول المسلمين الأولى إلا في عهد علي بن أبي طالب، حين رفع الخوارج شعار “الحاكمية” فقاتلهم عليه! الغريب أن هذا الشعار ركيزة أساسية في تيارات الإسلام السياسي اليوم.
إن الثورات السياسية التي شهدتها الدولة الأموية ثم الدولة العباسية كان موضوعها “العدل” وأحيانا “الأحق بالخلافة” لا الحاكمية. العدل هو الغاية، وكانت الحاكمية- من وجهة نظر البعض- سببا للعدل، وللأسف فإن “الإسلاموية” ركزت على السبب وتركت الغاية، وساندتها في ذلك، الأنظمة المستبدة التي تذرعت بالحاكمية أو بتطبيق الشريعة لتبرير القمع، فالعدل لا يحتاج التبرير على عكس الظلم، كما أن التلطي بعباءة الدين وسيلة ناجعة لتدجين المجتمعات وقمع المعترضين على الواقع.
إن طروحات علماء عصر التنوير العربي كانت متصالحة مع فكرة العلمانية وحاسمة لصالح الدولة المدنية كما نرى في فكر الإمام محمد عبده مثلا، والمثير أن أبا الحسن الندوي- في ما بعد- رأى أن العلمانية من نعم الله على الهند!
موضوع حاكمية الشريعة كما هو موضوع الحدود- من وجهة نظر كثيرين- موضوع ثانوي بالنسبة إلى الفرد المسلم، فأركان الإسلام واضحة، وكذلك أركان الإيمان، وليس فيها أي إشارة إلى الحاكمية أو إلى الحدود، خصوصا وأنه باب فيه آراء واسعة جدا. ويعزز هذا غياب أي نظرية سياسية في الإسلام، ولا يصح اجتماع غياب النظرية السياسية مع وجوب الحاكمية.
هذا هو المدخل الصحيح للحديث عن علمنة القضاء السعودي، التي تظهر في إزالة الحساسية تجاه مفهوم القانون وتقديمه على مفهوم الفتوى، وإذا استبعدنا الحدود التي نص عليها القرآن فسنلاحظ أن أغلب الأنظمة التي تطبق في المملكة أنظمة وضعية كنظام الخدمة المدنية ونظام مجلس الوزراء ونظام المناطق ونظام مجلس الشورى حيث لم ترد هذه الأنظمة- وغيرها- في آية كريمة أو حديث شريف، وهنا يحتال البعض بحجة أن هذا النظام- أو ذاك- مستوحى من الكتاب والسنة أو لا يتعارض معها، ولا يدرك هؤلاء أن القانون في قيمه العليا من إعلاء مبادئ الحق والعدل لا يعارض- أبدا- الإسلام، ولا يمكن أن تقوم الدولة- فقط- على تطبيق الحدود وأحكام المواريث وأداء الزكاة، والالتجاء إلى تقنين الفقه الإسلامي الدليل الأبلغ على هذا التصور، ويمكن قراءة هذه المحاولة كاحتيال آخر على حتمية الالتفات إلى القانون الوضعي لأن الاجتهادات الفقهية نتاج بشري محض، وتشابك مؤسسات الدولة وتعقيد دورها يفرض الالتجاء إلى القانون الوضعي الذي يجب أن يصوغه المختصون وينال رضى المواطن، مع احترام مقاصد الإسلام العليا في قوانين الأحوال الشخصية وفق ضوابط التخيير والتطوير لمراعاة غير المسلمين ومختلف تأويلات الدين الإسلامي ومتطلبات الواقع ومستجداته.
الموقف السلبي للإسلام من القانون الوضعي كان بسبب انتفاء قيم العدل والحق عن ذاك القانون في وقت بزوغ الرسالة، بمعنى تطبيق العقوبة على الفقير والضعيف وتجاهلها عن الغني والقوي، أو مداراة الأقارب وغير ذلك من المظاهر التي تزخر بها السيرة النبوية المطهرة، لكن هذا المبرر زال اليوم بسبب تكرس قيم الحق والعدل في القانون الوضعي.
علمنة التعليم السعودي، تعني حرية المواطن وحقه في تحديد التعليم الديني- وغيره- الذي يتلقاه أبناؤه كما ونوعا، وهنا يتحرر النظام من التصادم مع الأقليات (الإسماعيلية والشيعة)، والتصادم مع المذاهب الفقهية السنية (العقدية والفقهية) التي لا تدين بالمذهب الرسمي (السلفي والحنبلي)، ويتوازى مع هذا المنهج إعلاء مكانة العلوم العقلية والدنيوية إلى المقام الذي تستحق في سبيل النهضة والتحضر.
للأسف، فإن النخبة السعودية انساقت وراء النزعة الشعبوية في ذم العلمانية والتبرؤ منها- لظروف نشأة الدولة وموقع رجال الدين سياسيا وثقافيا واجتماعيا- لذلك فإن هذه النخبة مطالبة بتصحيح تلك الصورة المغلوطة، خصوصا وأن العلمانية لم تغب عن الحياة العامة في السعودية عبر التيارات القومية واليسارية بالأمس، وعبر بعض إسهامات ما يسمى بالتيار الليبرالي اليوم.
من نتائج التبرؤ من العلمانية، الحرب (الإعلامية والثقافية) المشتعلة بين التيارات الفكرية في المملكة، وقد سادت في هذه الحروب لغة متردية وعدائية من كافة الأطراف بسبب خشية كل طرف من تبني المؤسسة السياسية لدعوات الطرف الآخر!
إن الدعوة إلى التفكير في الخيار العلماني بالسعودية ترسخ فكرة الدولة الحَكَم التي لا تنحاز لتيار ضد آخر، وفي نفس الوقت، تمنع أي تيار من فرض أجندته على الآخرين، وهذا يستدعي ركيزتين: حرية الفرد في اختيار قناعاته وممارسة حقوقه، المساواة بين الأفراد أمام القانون وفي الحقوق والواجبات. ومعنى الحياد لا يقترب من سياسة جبر الخواطر.
يتجسد الحياد في التزام الدولة بتأمين حقوق مواطنيها في الحياة والاعتقاد والتعبير، والتفريق بين مفهوم الحق ومفهوم الخير قبل التفريق بين الخير والشر، فالحقوق متفق عليها نصا عبر “الدستور أو النظام الأساسي للحكم” والمعاهدات الدولية، أما “الخير”- وإن كان يستظل بالحق- فيبقى مفتوحا لتفسيرات متباينة وتطبيقات عدة تختلف بين زمن وآخر، ووجهة نظر وأخرى. بمعنى أن الحقوق تقترب من الثبات وتضمن العدل، بينما يقترب الخير من التغير والتقلبات ويضمن التنوع.
لقد نشأت العلمانية في أوروبا كحل إجرائي للحروب الطائفية التي أكلت الأخضر واليابس، وما نراه اليوم من صراعات طائفية في المنطقة سيفرض مشروع العلمانية كحتمية تاريخية لا مفر منها لكل دول العرب والمسلمين وليس للسعودية وحدها.
المصدر: صحيفة العرب
http://alarab.co.uk/m/?id=37448