
بقلم: أليسا كول
نقلاً عن موقع ذا جلوب آند ميل* ( ترجمة: هتلان ميديا)
بعد أن كانت المؤسسات المالية والشركات العاملة في قطاعات الموارد الطبيعية والصناعات التقليدية تهيمن على الاقتصاد العالمي، أعادت شركات التكنولوجيا الكبرى تشكيل هذا الاقتصاد بشكل جذري. ومع تنامي نفوذها غير المقيد، أصبح الإشراف عليها ضرورة ملحّة، فشركات “فانغ” (فيسبوك، آبل، أمازون، نتفليكس، وألفابت/غوغل)، والتي تتجاوز قيمتها السوقية الإجمالية 7 تريليونات دولار أمريكي، باتت جزءاً لا يتجزأ من حياة مليارات البشر حول العالم.
في الوقت الحالي، يستخدم أكثر من 37% من سكان العالم منصة فيسبوك، فيما يستخدم 35% محرك البحث غوغل، ما يؤثر بشكل مباشر في طرق تواصل الناس وتسوقهم، بل وحتى في كيفية تصويتهم. وقد أصبحت هذه الشركات، التي تتخذ من الولايات المتحدة مقراً لها، “أكبر من أن تفشل”، وهي صفة كانت تقتصر سابقاً على البنوك. ومع ذلك، فإن تضخم حجمها جعل من غير الممكن استمرارها وفق نموذج العمل الحالي ذاته.
بدأ صعود شركات التكنولوجيا الكبرى، التي يُمكن القول إنها باتت خارج نطاق سيطرة الدول، يتجلى بوضوح خلال ثورات الربيع العربي، ثم تأكد تأثيرها المتعاظم في الانتخابات الأمريكية عام 2016، والتي شابها تدخل روسي، وكذلك في قرار روسيا حظر تطبيق إنستغرام عام 2022.
في ظل التحولات السياسية التي تشهدها الولايات المتحدة، تراجعت شركات التكنولوجيا عن الحد الأدنى من الحوكمة المؤسسية التي كانت تعاني أصلاً من قصور واضح، فقد قامت “ميتا”، الشركة الأم لفيسبوك، مؤخراً بالاستغناء عن مُدققي الحقائق وحلّ “فريق الابتكار المسؤول”. وفي أعقاب استحواذه على “تويتر”، أقدم إيلون ماسك على تفكيك فريق الإشراف على المحتوى في الشركة.
مع تصدّر العديد من شركات التكنولوجيا الكبرى مشهد تطوير حلول الذكاء الاصطناعي، تتزايد المخاوف من استخدامها في نشر المعلومات المضللة، بل وحتى في التحريض على العنف. وفي الوقت ذاته، عارضت شركتا آبل وديزني بقوة ضغوط المستثمرين للكشف عن كيفية استخدامهما لتقنيات الذكاء الاصطناعي، إلى أن أصدرت هيئة الأوراق المالية والبورصات الأمريكية حكماً مغايراً العام الماضي.
منذ انتخاب الإدارة الأمريكية الجديدة، تراجعت متطلبات الحوكمة المتعلقة بالإفصاح والتنوع بشكل متسارع. وحتى قبل ذلك، لم تكن المعايير كافية لمواكبة التحديات الفريدة التي تطرحها شركات التكنولوجيا الكبرى.
عند طرح شركة “سناب شات” للاكتتاب العام في عام 2017، لم يتم منح أي حقوق تصويت للمساهمين، في سابقة تُعد الأولى من نوعها في تاريخ الرأسمالية، أما شركة “ميتا”، والتي بلغت قيمتها السوقية في وقت من الأوقات تريليون دولار أمريكي، فهي خاضعة لسيطرة مساهم واحد فقط. وقد ذهب السيد إيلون ماسك إلى أبعد من ذلك، حيث حوّل “تويتر” (حالياً X) إلى شركة خاصة وقام بحل مجلس إدارتها في عام 2022، رغم خضوعه لعقوبة من هيئة الأوراق المالية والبورصات الأمريكية قبل ذلك بأربع سنوات بسبب تضليله لمستثمري تسلا بشأن نية تحويلها إلى شركة خاصة.
تُعد هياكل الأسهم متعددة الفئات من أبرز التحديات في حوكمة شركات التكنولوجيا الكبرى، إذ تمنح مؤسسي هذه الشركات قدرة على السيطرة تتجاوز تماماً مصالح المساهمين والموظفين وغيرهم من المعنيين، فعلى سبيل المثال، تمنح الهيكلية مزدوجة الفئات في شركة “ألفابت” رئيسها التنفيذي قوة تصويتية تعادل عشرة أضعاف ما يتمتع به أي مساهم آخر، أما في شركة “ميتا”، فرغم امتلاك رئيسها التنفيذي أقل من 15% من أسهم الشركة، إلا أنه يحتفظ بحق التصويت المسيطر.
لطالما عارضت الشبكة الدولية لحوكمة الشركات، التي تمثل أصولاً مُدارة تتجاوز قيمتها 77 تريليون دولار أمريكي، هذه الممارسات، ودعت إلى تطبيق بنود “انقضاء الصلاحية” بعد مدة زمنية محددة، وفرض قيود على نسب التصويت، وتقييد ملكية الأسهم من قبل أعضاء مجلس الإدارة. وقبل ثلاث سنوات، أقامت جمعية “المساهمين من أجل الصالح العام” دعوى قضائية ضد مجلس إدارة شركة “ميتا”، مشيرةً إلى الأضرار التي لحقت بالديمقراطية ومحافظ المستثمرين، لكنها خسرت القضية.
في الوقت نفسه، لم يتمكّن واضعو السياسات – الذين يواجهون تأثير شركات التكنولوجيا الكبرى في المقام الأول عبر أدوات ضريبية وتنظيمية تتعلق بالمنافسة – من إحراز تقدم ملموس، فقبل خمس سنوات، وبعد تحقيقات مطوّلة، أوصى التقرير الأمريكي بشأن المنافسة في السوق الرقمية بتفكيك الاحتكارات التي أنشأتها أمازون وفيسبوك وآبل وغوغل، إلا أن ما حدث منذ ذلك الحين كان عكس ذلك تماماً، حيث عززت شركة “ميتا”، على وجه الخصوص، نفوذها بشكل أكبر.
مع تزايد اندماج القطاعات، وتراجع الضوابط التنظيمية للحوكمة في الولايات المتحدة، وظهور أدوات الذكاء الاصطناعي، أصبحت الحاجة إلى لوائح حوكمة مؤسسية مقبولة دولياً أكثر إلحاحاً من أي وقت مضى. والخبر الإيجابي أن هناك نماذج سابقة يُحتذى بها؛ إذ تُشرف لجنة بازل للرقابة المصرفية على معيار دولي معتمد لحوكمة القطاع المصرفي، بينما تتولى منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية وضع مبادئ توجيهية معترف بها عالمياً لحوكمة المؤسسات الحكومية.
توضح هذه المعايير أن بعض الشركات تتطلب آليات رقابة مصمّمة خصيصاً لطبيعة عملها. وينبغي أن تتناول حوكمة شركات التكنولوجيا الكبرى قضايا مثل هياكل الأسهم متعددة الفئات، ومشاركة أصحاب المصلحة، والإفصاح عن استخدامات الذكاء الاصطناعي المؤسسي – وهي جميعها مخاطر ما تزال خارج نطاق الرقابة الفاعلة. كما ينبغي أن يشمل المعيار الجديد معالجة التحديات الناشئة والمستقبلية.
رغم أن وجود أعضاء افتراضيين مدعومين بالذكاء الاصطناعي في مجالس الإدارة لا يزال نادراً، كما هو الحال في مشاركة “أيدن إنسايت” (منصة افتراضية مدعومة بالذكاء الاصطناعي تشارك بصفة مراقب غير مصوّت) في مجلس إدارة الشركة العالمية القابضة في أبوظبي، إلا أن هذا التوجه يطرح تحديات قانونية وحوكمية جوهرية لا تزال غير مطروقة. وبالمثل، ومع إفصاح أقل من ثلث الشركات المدرجة ضمن مؤشر “ستاندرد آند بورز 500” عن دور مجالس إداراتها في الإشراف على الذكاء الاصطناعي في عام 2024، تبرز الحاجة الملحّة إلى وضع مبادئ تنظيمية واضحة وشاملة في هذا الإطار.
تبدو منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، باعتبارها الجهة التي تستضيف “المعيار الذهبي” الدولي لحوكمة الشركات، الجهة المثالية لاستضافة مثل هذا الإطار التنظيمي العالمي، غير أن التحدي يكمن في أن التوصل إلى هذا الاتفاق سيتطلب تقديم تنازلات كبيرة بين المصالح الأمريكية والصينية والأوروبية، التي لا تزال، في المستقبل المنظور، غير متوافقة، لا سيما في ما يتعلق بدور شركات التكنولوجيا الكبرى كمساهم رئيس في الاقتصاد العالمي.
=================
* المقال الأصلي باللغة الإنجليزية في موقع (ذا جلوب آند ميل)