كاتب في صحيفة الحياة اللندنية
لكي لا يذهب فكر القارئ بعيداً فالمقصود بالسرقة أعلاه الاقتباس من باحث أو مفكر آخر من دون ذكر اسمه، وهو ما حدث عندما نشر المفكر المغربي الراحل الشهير محمد عابد الجابري مقالات في صحيفة الشرق الأوسط عن محنة أحمد بن حنبل من دون الرجوع للمصدر الأصلي وهو المفكر الأردني – الفلسطيني الشهير فهمي جدعان.
الطريف أن جدعان لم يكن يعلم بالاقتباس (إذا لطفنا كلمة سرقة)، إلا بعد أن أجرى معه الباحث القدير علي العميم حواراً لصحيفة الشرق الأوسط آنذاك، وأثناء الحوار سأله عن مقالات الجابري بهذا الخصوص، قال: «إنه لم يطلع عليها»، وعندما بادر العميم ووفرها له وقرأها جدعان صدم وذهل وغضب من الجابري، واتهمه علانية بالسرقة عندما قال: «إنه اتبعني حذو القذة بالقذة».
لنعود إلى الجابري ونتساءل، أكان المقصود سرقة أم نوعاً من الاستهتار أو الكسل؟ الواقع أن الأمر غامض، إلا أن العوامل جميعها تكون مشتركة، وقد سأله محمد رضا نصرالله في برنامجه التلفازي الشهير «60 دقيقة سياسية» عن ذلك، فأجاب مرتبكاً أن له صلة وثيقة بجدعان وعائلية كذلك، وأن عدم توفر المصادر ذلك الوقت حدا به إلى الأخذ من كتاب جدعان، (وكل ذلك لم ينف أنه لم يذكر اسم فهمي جدعان كمصدر له).
المثير في الموضوع أن جدعان نفسه لا يشكك أبداً في قدرة الجابري العلمية، فهو يعرف حجمه وأهميته في الفكر العربي، لكن تظل في النفس غصة، وعلى أية حال صحح الجابري خطيئته لاحقاً، وذكر اسم جدعان في مصادره معتذراً بأنه لجأ لبحث جدعان لثقته به كباحث ولضيق الوقت، مما حدا بجدعان إلى رد التحية بمثلها، فحذف اتهامه السابق مع الإشارة إليه في هامش كتابه.
المفكر اللبناني رضوان السيد ذكر في إجابة لسؤال من علي العميم عن الخلاف بين الجابري وجدعان التالي: «من هذه النقطة، أريد أن أبدأ لأتحدث عما فعله الجابري. الجابري كعادته في التبسيط، جاء فاستند إلى النصوص التي جمعها جدعان كلها، ثم توصل إلى استنتاجات أكثرها من عند جدعان، ولكن في الوقت الذي يعرضها جدعان بشكل تحليلي تركيبي وبنائي إشكالي، يأتي الجابري بتبسيطيته وشعبوانيته. فيجعلها بمثابة البديهيات، التي يستغرب أن أحداً لم ينتبه إليها، وهو قد تنبه إليها. فصيغتها المعروضة بها صيغة الجابري، على رغم أنها في أساسها لفهمي جدعان، ثم إن الجابري يختلف مع جدعان، في مسألة واحدة وهي علاقة الديني بالسياسي، فمحمد عابد الجابري كان يسارياً، والتطور الذي حدث له في فكره وفي عمله العلمي، أنه ما عاد يتحدث عن جوهر الدين هل هو موحى أو غير موحى، بل انتقل الحديث عن توظيف الدين من جانب السلطة، وأرى في هذا تبسيطاً رهيباً، لا يصح أن يقع فيه مفكر مثل الجابري. كلمتي الأخيرة: أن الجابري أفاد من كتاب جدعان بنسبة 80 في المئة من النصوص ومن الاستنتاجات، وإسهامه يقتصر على إسهامين سلبيين إذا صح التعبير، هما: التبسيطية التي تجعل من الأمور كأنما ليست هناك مشكلة، بينما المشكلات قائمة قبل وبعد دراسة جدعان. زعمه هكذا دونما إثبات أو دليل بأن الديني كان موظفاً دائماً لخدمة السياسي، وهذا ما لم يستطع إثباته، لا في كتابه عن العقل السياسي العربي، ولا في مقالاته بصحيفة الشرق الأوسط التي أشرت إليها في سؤالك».
الاتهام الأقسى كان من المحامي إبراهيم السكران، الذي ذكرت مجلة البيان في مراجعات لكتابه «التأويل الحداثي للتراث» في عرض لها عن كتابه التالي: «استعمل جدعان ضد الجابري أغلظ الشروط الأكاديمية في العزو البحثي، واستعمل لنفسه في علاقته بفان إس أيسر الشروط الصحافية في التغاضي عن مصدر المعلومة»، ثم يختم المؤلف: «هذه القصة لاستشراقيات المحنة منذ باتون ومروراً بالمفبرك الكبير فان إس».
برأيي أن ما فعله الجابري كان واضحاً، وتراجع عنه لاحقاً، أما اتهام السكران لجدعان ولفان إس فهو انحياز آيديولوجي سافر تعوزه البراهين.
المؤكد أن السرقة العلمية لا تبرر مهما كانت الحجج، وإذا كان هناك أسباب كثيرة للسرقة بشكل عام فإنه لا يوجد أي مقابل للسرقة العلمية.
المصدر: الحياة