كاتب عمود يومي في صحيفة الوطن السعودية
بكيت بكل الغضب والألم، وأنا أشاهد “طائرتها”، مساء الاثنين، تتحرك بين “خرطومة” مطار الملك خالد الدولي مغادرة إلى ديار أهلها في النقطة الأبعد من شمال هذا الوطن.. قصتها موغلة في الوحشية وفي تفاصيل قوانين الغابة. كنت على صالة المغادرة قبيل منتصف المساء عندما سمعت مع من حولي صراخ شابة يسحبها زوجها المتوحش من سيارته ويسحب من بين يديها طفلة في الرابعة من العمر، ثم يرمي أمامنا “حقيبتين”، ويرمي أيضا على الأرض “بطاقتها” لصعود الطائرة. في بضع ثوان معدودات يحشر طفلته على المقعد الأمامي ثم يهرب تاركا ما كانت “شريكة الحياة”.. نجدتنا ونخوتنا من حولها أن نعيد الطفلة “منال” من هارب، ولا مكان بيننا أو فينا لنجدة أو نخوة.
تبرع شيخ فاضل، كان على قدر الموقف، بإكمال بقية التفاصيل، وكان يتصل بأهلها وينهي إجراءات سفرها حتى فات عليه موعد مغادرته الأصلي، فلم يتركها إلا بعد أن اطمأن أنها على المقعد الذي سوف يأخذها إلى والديها في الرحلة الأخيرة.
شهدت في حياتي عشرات القصص، لكن “صدفة” هذه القصة المأساة ستبقى في ذاكرتي جرحا ما حييت.. زوج متوحش يسحب طفلة من أمها على بوابة المطار، بينما “الأم والطفلة” تصرخان بالعويل لنجدة بعضهما البعض، ولكن دون حيل ولا قوة. شاهدت “أما وابنتها” في ثوان معدودات تذهبان في مهب الريح، وتفترقان في لحظات من الأحزان والدموع والصراخ، مثلما وقفت شاهدا على الثواني الأخيرة من جسد واحد يودع ـ للأبد ـ بعضه البعض.
سأعترف اليوم بأن مشوار حياتي مملوء بالقصص المؤلمة، وبالأحزان المتراكمة، وأنني لست في حاجة إلى هذه الصدفة كي تكتمل في نفسي بقايا هذا الانهيار لحادثة تستعصي على الوصف والكتابة.
تحدثوا عن مجتمعكم النبيل المسلم المتماسك كما شئتم.. تحدثوا عن القيم الإنسانية التي تتفاخرون بها وهما وكذبا بين مجتمعات الأرض.. تحدثوا أيضا عن الخصوصية التي تميزكم عن كل من سواكم. تحدثوا عن كل شيء من ديباجة الخطب والمواعظ، ولكن: تذكروا ـ في المقابل ـ أن هذا “الوحش” الكاسر لو كان يعلم أنه سيقف أمام “واحد” من جملة واحدة لما فعل ما فعل. لو أنه يعرف أنه سيحاسب على هذه “الوحشية”، وسيدفع ثمنها لما كان هذا المنظر الموغل في التشوه. تذكروا أننا كنا من حولها ما يقرب من عشرين رجلا، وكلنا لم نستطع أن نهب للنجدة ولا للنخوة. كنا ـ أو بعضنا ـ نبكي لحالها تماما كما تبكي النساء ولا ندري؛ هل نبكي غياب القانون، أم نبكي مأساة هذه المرأة؟!
المصدر: الوطن أون لاين