كاتبة لبنانية
في عام 2010 زرت مدينة «بعقوبة» في منطقة «ديالى» العراقية التي حوّلها تنظيم القاعدة العراقي إلى نقطة تمركز أساسي لهجماته وانتشار عناصره..
لم نكد ندخل المدينة حتى دوى انفجار ثم تلاه آخر..
انتفضتُ من مكاني من الدوي ومن الفوضى التي حلت بالمكان فما كان من ياسر، المصور الذي كان يرافقني سوى أن ضحك من جفلتي وسخر من رد فعلي الذي اعتبره مبالغة بعض الشيء. كلما اقتربنا من بؤرة توتر أو من مكان يثير الريبة كان ياسر يزداد هدوءا وتركيزا في عمله.
لم يكن يردعه عن التصوير والتقاط ما تيسر له من مشاهد أي اعتبار. كان يحمل كاميرته بخفة ويتنقل بروية لا تشبه الضجة التي ترافق عادة المصورين. كان شقيقه يحمل كاميرا تصوير فوتوغرافية يرافقه غالبا ويساعده. كانا يتباهيان أحيانا بصور التقطاها للحظات صعبة مرّا بها في العراق ومن بينها صورهما جريحين جراء انفجار..
إنه ياسر فيصل الجميلي، مصوّر صحافي عراقي من الفلوجة. كل واحدة من صفاته تلك تحمل مخاطرة بحد ذاتها. فإن تكون من الفلوجة فستكون حتما قد شهدت أو نجوت من معركة ما سواء مع «القاعدة» أو مع الجيش الأميركي حين كان في العراق. وأن تكون مصورا في العراق فهذا يعني أنك معرض للموت أو للخطف أو للاعتقال في أي لحظة وفي أي منطقة.
النجاة على مدار اللحظة من الموت هي حرفة ياسر كما هي حرفة معظم العراقيين. لديه سجل لا ينتهي من اللحظات التي اقترب فيها الموت منه لكنه تراجع في اللحظة الأخيرة. لعله اعتقد أن الحظ سيرافقه حتى حين قرر أن يغامر ويذهب في مهمة عمل إلى سوريا.
تمرّس ياسر في التعامل مع الجماعات المتشددة خلال عمله لكن خبرته تلك التي ربما اعتبرها ستحصنه خانته في مهمته الأخيرة. لقد أخطأ في الحسابات وذهب إلى الشمال السوري وعمل على تصوير مادة غنية عن ارتكابات الجماعات المتشددة هناك. قبل أن يغادر ويعود إلى العراق تم اعتقاله وقتله.
لقد حقق مرتزقة «الدولة الإسلامية في العراق والشام» المختصرة بتسمية «داعش» إنجازا دمويا جديدا ينافسون به دموية النظام السوري. أعدمت الجماعة ياسر ليكون أول صحافي يقتل في المناطق التي باتت «محررة» من النظام لكنها محتلة ومنتهكة من تلك الجماعات. خلال الأسبوعين اللذين عملتُ فيهما مع ياسر في العراق كانت هناك لحظات قلق كثيرة وفي لحظات القلق غالبا ما نستذكر من نحب، إذ نخشى أن لا نراهم ثانية.
حينها قال ياسر: «أحب كل ليلة حين ينام أطفالي أن أقترب منهم وهم غافلون فأشمهم وأستمع إلى أنفاسهم، فحينها فقط أشعر بالطمأنينة.. يجافيني النوم جراء رغبتي في الإمساك بالأمان الذي أشعر به حين أراهم نائمين بسلام»..
عسى أن تتمكن روحك الجميلة يا ياسر من أن تحوم حول زوجتك وأطفالك الثلاثة لعلّها تعيد لهم بعض الطمأنينة التي جافتهم برحيلك.
المصدر: الشرق الأوسط