كاتب سعودي
تحتفل السعودية بعيدها الوطني في الثالث والعشرين من شهر سبتمبر (أيلول) من كل عامٍ، هذا التأسيس الذي أقام الدولة السعودية الحديثة واعتمد الملك المؤسس تسميتها بالمملكة العربية السعودية، المؤسس الذي قاد معارك التأسيس لما يقارب الثلاثين عاماً حتى استوت الدولة على الأمن والاستقرار فأعلنها دولة حديثة مستقرة وذات سيادة.
الدولة السعودية بدولها الثلاث تمتد في التاريخ لما يقارب الثلاثمائة عامٍ، والعائلة الكريمة الحاكمة يمتد حكمها لبعض نواحي البلاد لما يقارب مائتي عامٍ قبل توحيد البلاد في الدولة السعودية الأولى، وبنو حنيفة يحكمون نجد منذ زمن الجاهلية قبل ظهور الإسلام.
هذا الاستعراض السريع الذي أرجو ألا يكون مخلاً إنما هو للتذكير بالعمق التاريخي لهذه الدولة السعودية الحديثة، فالسعودية ومكانتها اليوم هي في جزء منها تثبيت لهذا التاريخ وترسيخ له وتوسع فيه والعيد الوطني هو لحظة للتذكير بأمجاد التاريخ ومفاخر الحاضر وطموحات المستقبل.
تأسيس الدرعية كان لمانع بن ربيعة، وقد سعى أحد أهم أحفاده مقرن إلى تأسيس دولة كانت تعرف بدولة آل مقرن قبل تأسيس أحد أهم أحفاده محمد بن سعود للدولة السعودية الأولى، وقادته فكرة التأسيس إلى استقطاب التجار والسعي للتوسع والوعي بأهمية قيام الدولة، واستدعى رجال الدين أيضاً وكان من أهمهم الشيخ محمد بن عبد الوهاب، وشيوخ القبائل وكان من أهمهم ابن قرملة وغيره، يقوده في ذلك كله المصلحة السياسية والمصلحة الاقتصادية عبر نشر الأمن والاستقرار ولمّ شمل القبائل والعوائل ذات اللغة الواحدة والعادات والتقاليد والأعراف المتوارثة، وكان يحارب الخرافات والقبور تنقية لعقول الناس.
قدمت بعض كتب التاريخ القديمة تفسيرات لقيام الدولة السعودية الأولى لا تتفق كثيراً مع ما جرى تاريخياً، وذلك بالانحياز لما يسمى «الدعوة» على حساب «الدولة» وهو الأمر الذي تمّ تضخيمه كثيراً بعد وصول جماعات الإسلام السياسي أو ما يعرف بالصحوة والذين لهم مآرب معروفة لترويج ذلك على نطاقٍ واسعٍ.
سقطت الدولة على يد المحتلين الأتراك، الذين ارتكبوا المجازر في كافة أرجاء البلاد وكان أكبرها ما جرى في الدرعية بعد سقوطها، ونشروا الظلم والاستبداد والجرائم في عموم البلاد، وقيض الله لإنقاذ البلاد الأمير تركي بن عبد الله الذي خرج إلى الصحراء ولاذ بأحد الكهوف يدرس أحوال البلاد بعد سقوط الدولة ويخطط لجمع القبائل والتجار والجنود خلفه لاستعادة الدولة حتى نجح أخيراً في طرد الأتراك المحتلين وإقامة الدولة السعودية الثانية.
سقطت الدولة الثانية لاحقاً لأسباب معروفة، فخرج الإمام عبد الرحمن الفيصل آخر حكام الدولة السعودية الثانية من الرياض ولجأ إلى بعض دول الخليج واستقر في الكويت، وكان ضمن عائلته المغادرة للرياض ابنه عبد العزيز الذي شاهد الهزيمة والارتحال واللجوء ومثل جده تركي كان قوي العزيمة وعالي الهمة ولم تفارق ذاكرته مغادرة الرياض، وظل يسعى لاستعادتها.
حاول في المرة الأولى فلم يكتب له النجاح، ثم بعد عام أعاد الكرة ونجح، وبدأت رحلته الطويلة لتأسيس الدولة السعودية الثالثة التي امتدت لعقود حتى إعلانها في 23 سبتمبر 1932 ومعها استقرت الدولة وتطورت في عهود أبنائه الملوك وصولاً إلى خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز وولي عهده الأمين الأمير محمد بن سلمان.
لضخامة الإنجازات داخلياً وخارجياً أعلن البعض بوطنية أننا نشهد الدولة السعودية الرابعة وهو ما نفاه ولي العهد وأكد أننا استمرار للدولة السعودية الثالثة، واليوم تحتفل السعودية بعيدها الوطني في ظل رؤية المملكة 2030 التي نجحت في بناء أضخم ورش عملٍ للانتقال نحو المستقبل في كافة المجالات، وهي تعيش واحدة من أزهى لحظات تاريخها الطويل وتعيش بناء متواصلاً وحثيثاً لمستقبل أفضل.
لم يعق اتجاه الدولة نحو المستقبل أن تتصدى للمشاريع المعادية في المنطقة، فدخلت حرباً في اليمن، وتلقت اعتداءات متواصلة من الأسلحة الإيرانية التي تصدرها لميليشيا الحوثي، وتصدت باقتدار لمئات الصواريخ الباليستية ومئات الطائرات المسيّرة، وهي مستمرة في عملية تحرير اليمن.
فرضت الولايات المتحدة عقوبات قاسية وغير مسبوقة على النظام الإيراني وصرّح مسؤولوه بأن إيران إن لم تصدّر نفطها فلا أحد سيصدر نفطه من المنطقة، واتبعت طريقتين؛ الأولى، استهداف السفن وخطوط الملاحة الدولية في مضيق هرمز، وسعت لمهاجمة النفط السعودي وشركة أرامكو، فضربت حقل الشيبة النفطي كما استهدفت خط الأنابيب الواصل بين شرق المملكة وغربها بالطائرات المسيّرة، ومن ثم لجأت للهجوم المباشر بالصواريخ والطائرات المسيّرة على معملي أبقيق وخريص النفطيين.
ردة الفعل السعودية كانت هادئة وحكيمة، فأدانت الحادث الإجرامي بأوضح العبارات، وأرسلت غالبية دول العالم استنكارها الشديد، ونجحت شركة أرامكو في استعادة عافيتها في فترة وجيزة جداً تثبت للعالم أنها أهم وأنجح شركة في العالم كله، وخلافاً لما أراده النظام الإيراني فإن السعودية ستطرح جزءاً من أسهمها في الأسواق العالمية وهي أثبتت للجميع قدرتها الخارقة على تجاوز الأزمات.
قامت وزارة الطاقة بتوضيح كل التفاصيل للعالم، وقامت وزارة الدفاع بعرض الصواريخ والطائرات المسيّرة الإيرانية في مؤتمر صحافي عالمي، ثم سعت السعودية لتشكيل فريق تحقيق دولي للوقوف على الأدلة والبراهين التي تدين اعتداء إيران الصارخ والمخالف لكل القوانين الدولية، ومن ثم تكون السعودية وحلفاؤها أمام خيارات الذهاب لإدانة أممية أو لجملة من الردود العسكرية المناسبة، وتأكد للجميع أن السعودية لا تستفز لردة فعل سريعة بل هي تبني خططها وتجبر الآخرين على التحرك وفق توقيتها.
واحدٌ من أهم النجاحات في السعودية الجديدة هو القدرة على بناء التحالفات السياسية والعسكرية، ومن أهمها التحالف العربي في اليمن والتحالف الإسلامي لمحاربة الإرهاب، وقد شاركت من قبل ومن بعد في المشاركة في تحالفات ناجحة وفاعلة، وهو أمرٌ يجب أن ينتبه له ملالي إيران قبل أن تحين ساعة الصفر بالنسبة لهم.
الرصاصة التي لا تقتلك تزيدك قوة، وهو تحديداً ما جرى في هجوم أبقيق وخريص.
أخيراً، فكل مشاريع السعودية التنموية مستمرة، وبناء المستقبل مستمرٌ، والمواطن السعودي عاجز عن متابعة كل هذا التطور الذي يجري، وبالمقابل فإيران تفتش عن أي مخرج لتفادي العقوبات الصارمة حتى ولو بافتعال حربٍ مدمرة في المنطقة، وفرق كبير بين السياسي الواعي والمؤدلج الجاهل. وكل عامٍ والسعودية بخير.
المصدر: الشرق الأوسط