في كل أسبوع تستضيف «عكاظ» مغرداً في «تويتر» وتجلسه على منصة المواجهة، ثم ترشقه بالأسئلة المضادة والمشاكسة.. هو حوار ساخن هنا كل يوم ثلاثاء، وضيفنا هذا الأسبوع هو الأكاديمي والكاتب والسياسي اليمني ورئيس منتدى الجزيرة العربية للدراسات الدكتور نجيب غلاب.
• هل حقاً ماتت الأيديولوجيا؟
•• الأيدولوجيا تموت لتولد من جديد بعد أن تعدل أخطاءها، وكلما ماتت تفككت وتوالدت بأشكال متنازعة ومتنوعة من العقائد والأفكار. عادة ما تندثر الأيدولوجيات الجامدة، وتتكسر بحكم الدوغمائية التي تتحكم فيها، وكلما كانت الأيدولوجيا أكثر مرونة تمكنت من تجديد نفسها، إما بالانقسامات أو بالتفكيك وإعادة البناء ثم التجاوز وخلق أيديولوجيا بديلة. المشكلة عندما يصبح الدين أيديولوجيا، فإنه يفرز تناحرات داخلية ويتخلق بشموليات تنتج عنفاً وغير قابلة للتفكيك إلا بالحرب. كلما بلغت الأيديولوجيات الشمولية والقهرية ذروتها تحاول أن تتعقلن، وإن لم تتمكن انهارت. يبدو أن الإنسان لا يتمكن من العيش إلا بالأيديولوجيا على الأقل في مرحلته الراهنة، وإذا غابت المنظومات العقائدية والفكرية لتفسير الوجود تبعث الأصوليات ويتم أدلجتها.
الأيدولوجيا العملية التي تخلقها التجربة والحاجة عادة ما تكون قادرة على التحول والتغير، لكنها بحاجة إلى وجود المعنى؛ لذا تحاول أن تستند إلى مفاهيم وقيم كلية وخلفيات حضارية وعادة ما تكون أكثر قدرة على التعامل مع الانبعاثات الأصولية وتتمكن من إخضاع انفعالاتها المتطرفة فتوظفها وتتحكم بمسارات حركتها لتصبح أداة وظيفية في تنظيم الحاجات الاجتماعية وبالذات بأبعادها الروحية وتحصيل المعنى.
التحيزات اليسارية
• أين يكمن الخلل عادة في النظرية الفكرية أم في التطبيق؟
•• لا توجد أي نظرية فكرية مكتملة يحاول السياسي الغارق في النظرية وهو يسعى لتطبيقها وتسويقها بوصفها حلا خلاصيا ويبذل جهده لتحصيل القوة لتطبيقها، لكنه بمجرد أن يمسك زمام الأمر تصبح النظرية عاملاً معيقاً، فتتم إعادة تفسيرها والاستناد إليها وتخليق رؤى وأفكار ونظريات مكملة يتم شرعنتها من داخل النظرية الأم حتى وإن لم تتطابق معها وتبدأ النظرية في الانقسام وتظهر معارك تبدأ بالتخوين وتنتهي بالتصفيات لصالح الأكثر قدرة على تفهم صراع القوة وبنائها. وجدلية النظرية والواقع محكومة بالعقل وحاجات الواقع مهما ادعت التزامها بمقولاتها ومفاهيمها، وإذا تم الرهان على النظرية دون انتباه للواقع عادة ما تنتج النظرية إعاقات للواقع فتقهره وتظلمه وتجبره على الفكرة، فيتماهى معها ويقود الواقع معركة تلقائية في مختلف جوانب الحياة ويحدث تغيير تكبح تحوله الى تغيير بقاء النظرية وأدواتها القسرية والقهرية فيستمر الواقع يعمل ضدها وفي الأخير يفشلها ويتغلب عليها، وعادة ما تكون الخسائر كبيرة وقد تمس كل فرد ومستقبل الدولة والمجتمع؛ لأن التجاوز عادة يحتاج إلى عنف أو عمليات جراحية إن تخلقت قيادات مبدعة في وسط المنظومات القديمة تلتحم بالجديد ويبدأ التحول وعادة ما يكون التدرج مهماً. لو أخذنا أمثلة من المنطقة سنجد «الخمينية» أيديولوجيا أصولية بنزعة مذهبية وهي متصلبة؛ لأنها ترى نفسها أداة وظيفية لتعجيل خروج الغائب فاستناداتها حتى وهي تحاول أن تتعقلن مؤسسة عن غنوصية وغيبيات هي خرافة بالنسبة للفكر الفلسفي، وهذا يجعلها أيديولوجية شاذة وغريبة وتوظف الدولة والمجتمع من أجل النظرية. لو قارناها بدول الخليج سنجد أن الأيديولوجية في هذه الدول مرنة تستند إلى التقاليد بأبعادها المختلفة وتنطلق من الواقع وخلفية حضارية عربية وإسلامية وتقاليد محلية مع إحداث انتقالات بلا مآزق وجودية، وهذا مكنها من التحرك وفق حاجات الواقع ومتطلباته دون تجاوز الثقافي والاجتماعي وفق نظريات ثورية وإنما بالاعتماد على الحراك التلقائي لجوانب الحياة وتأثيرات الخارج؛ لذا ستجد البعد القومي والإسلامي والثقافة المحلية وتحولاتها تتعامل مع التأثيرات الخارجية بمنطق الحاجة والقبول؛ لذا لا تجد هزات مزلزلة كما هو حال العراق أو سورية أو مصر، وهذا مكّن الخليج من مراكمة التجربة والحفاظ على الاستقرار والتقدم.
المثقف العربي
• ما المطلوب من المثقف العربي في هذه المرحلة بالذات؟
•• باختصار، المثقف العربي غالبا شكلته الأيديولوجيات والأحزاب وصراعات المنطقة وأحقاد الصراعات السياسية؛ لذا فهو لا ينتج الفكر ليحدث التغيير ولا يفهم واقعه كما هو، وإنما يوظف المعرفة لأجندات خاصة مرتبطة بالنظرية أو الحزب أو عصبيات الحكم التي يرتبط بها؛ لذا وجدت مثقفين كبارا في سورية غرقوا في حماية نظام الأسد، ومنظمات ثقافية اشتغلت مع الخمينية، ومثقفين مع الربيع العربي عادوا إلى مراحل تشكيلهم الحزبي وخلاياها وانخرطوا كإسلامويين غوغائيين بلا رؤية ولا نظرية إلا الانتقام من الأنظمة لا تغييرها. ربما المثقف -إن جاز التعبير الليبرالي- أكثر نضجا في فهمه للواقع؛ لذا سنجد مثلا أن قراءاتهم أقرب إلى الواقع، وعادة قدرتهم على اكتشاف مسار التحولات قريبة إلى الواقع ويعتمدون على الواقعية والموضوعية ولا تعميهم تحيزاتهم ولا أيديولوجيا صارمة تحجب العقل عن فهم القضايا، والمثقف الليبرالي قد ينطلق من تحيزات إسلامية أو يسارية إلا أن الأكثر نضجا داخل التيار الليبرالي هو المثقف المنفتح الأكثر ارتباطا بالواقع وبالثقافة العالمية، والمتابع الجيد لأبعاد الصراع السياسي والثقافي والاقتصادي في مستوياتها المحلية والإقليمية والعالمية. ليس مطلوبا في ظل هذه المتغيرات المذهلة من المثقف أن يكون مناضلا لأنه في هذه الحالة قد يصبح غرائزياً وغوغائياً ويفقد قدراته، وعادة ما يصبح النضال وظيفة ومع الوقت عملا لتحصيل المصالح، فتصبح انتهازية المثقف حتمية، ولكن باستغلال قبيح لوظيفة المثقف، فيصبح مبتزا وموظفاً في صراعات السياسة. ولا مطلوباً من المثقف أن يكون نقيا وخلاصيا لأنه ينخرط في الأيديولوجيات المتطرفة ويصبح مشاغبا هداما ويصبح حالة مرضية تعيق تطور المجتمع بالمعرفة التي يمتلكها، وإذا فشل هذا النوع من المثقفين ستجده يتعامل مع حركات التمرد والإرهاب باعتبارها مجالا ثوريا لإحداث التغيير، وستجده يغرق في نقد الواقع لبنائه أو تغييره، بل لتشويهه، وغالبا ما يكون هذا المثقف منخرطا في حزبيات فاشلة وينتهي به الأمر طائفيا غبيا، أو خلاصيا يوظف المعرفة لينتقم، والحالات في الواقع كثيرة. المثقف وفق التوصيفات اليسارية والإسلاموية والنظريات الطهرية أيا كانت تبحث عن مثقف نقي مناضل ومجاهد يحترف النقد الجذري لكل شيء لترسيخ القيم التي ينطلق منها ويواجه كل شيء، وهذا المثقف كان دوره تخريباً في العالم العربي ومزورا للواقع، ينتقد كل شيء ويحمل مشاريع عدمية من ناحية واقعية.
المثقف الواقعي أكثر نقاء ممن يدعي الطهر، والواقع يحكي لحالات كثيرة، إذ إن المثقف الواقعي أكثر إخلاصا للقيم الحاكمة لحاجات الإنسان ووجوده وأكثر مرونة في مساعدة الواقع على التغيير. المثقف الناضج ليس ثوريا، لكنه يحقق ثورة بالعقلانية والاتزان، يتحرك مخلصا لحريته كفرد لكنه لا يتجاوز واقعه، ولكنه ينتقده ليتقدم؛ لذا لا بد أن يكون واقعيا وعمليا وملتزما بما يحقق وظيفة المثقف حيث الإنتاج الذي يحقق التقدم للمجتمع وللدولة، المثقف ليس وظيفة وإنما هو عمل متحرك في الواقع يفهمه وينتجه بما يحقق التراكم ويتولد بالتغيير ويمتلك فاعلية التمرد الناعم المتحيز للإنسان وبعث الحيوية في الحياة، ولا بد أن يكون مرتبطاً بحركة المؤسسات بمفهومها المركب والمعقد.
كراهية العالم
• لماذا المثقف العربي دائماً يُفاجأ بالأحداث وقد وقعت.. لماذا لا يكون رائياً؟ ما الذي يعوزه؟
•• المثقف إذا كان خلاصة لتجربة الواقع بتعقيداتها المحلية والإقليمية والدولية ومتحرراً من الأيديولوجيات الشمولية وقادراً على استيعاب المصالح كما شكلها الواقع بتحولاته وقارئاً لطبيعتها ومراكز التحكم في بنائها ويمتلك واقعية ومنهجية ومتحررا من الغوغائيات وحدسه مصقول بالتجربة العملية المرتبطة بالمجتمع وتجربته التاريخية وطموحات التشكلات التي ينتجها التغير التلقائي وطبيعة قوى التغيير الكامنة لا المتخيلة، لابد أن يكون أكثر قدرة على استشراف المستقبل. ستجد المثقف العربي إما غارقاً في الماضي ويعيش واقعه ويدينه بوعي انعزالي ويختلط به في الوقت نفسه ليصغيه كما تحدده له قراءاته للماضي ويتعامل مع الواقع بكل تركيبته المعقدة بعداء النابذ المتعالي، أو يعيش واقع الغير داخل واقعه ويحتقر واقعه ويتعامل معه بغرور القميء المتعالي الذي غالبا تكون القراءات الاستشرافية ناقصة ومنبثقة من الحالة العدمية التي يعيشها مع الواقع؛ لذا لا يمكن أن يفهم أو يستشرف، وعادة ما ينفعل مع المتغيرات لا فاعلا بل متفاعلا مصدوما.
• هل تعتقد أن القضية الفلسطينية لا تزال تنبض في وريد العرب؟ أم أن هناك يأساً جعلها تذبل في الوريد؟
•• القضية الفلسطينية تم تضخيمها دون أن تكون هناك فاعلية منتجة لفعل ملموس، وتحولت إلى جدار للبكاء العربي وتعبير لتغطية الفشل وإدارة الصراعات الداخلية والخارجية وخطاب متقعر لإنتاج الأحقاد والكراهية ومجال لإدانة العالم والانغلاق ووظفتها الانتهازية الإيرانية لتصبح مجالا مربحا للنفوذ وتشويه العرب وأداة ضاغطة لتحقيق مصالحها الإقليمية والدولية وعاطفة للتعبئة داخل المجال العربي ولشرعنة فكرة الثورة وتصديرها دون أن تمس أمن إسرائيل، بل إن قيادات إسرائيلية تعاملت مع الانتهازية الإيرانية باحتراف ووظفتها لتربح منها في النهاية، فهي لم تشكل تهديداً، لكنها حققت من خلالها أرباحاً أمنية واقتصادية كثيرة.
كل الأيديولوجيات العربية استخدمت القضية الفلسطينية ووظفتها دون أن تقدم لها شيئاً غير فائض في الخطاب وأداة لإدارة حروب التخوين والإدانات البينية بين القوى المتصارعة داخل الدول العربية وبين الدول العربية. التعامل مع القضية الفلسطينية لم يؤثر كثيرا في مساراتها وإنما أصبحت كالعبء الذي لا يمكن التخلي عنه ولا التعامل معه بواقعية، ومن الواضح أن هكذا تعامل لعب دورا في تشويه الوعي العربي على الأقل على مستوى الجماهير والمثقفين في إغلاق مجالنا العربي من التعامل بشكل طبيعي مع العالم، فقد تحولت إلى مجال لضخ المظلومية وكراهية العالم والحقد عليه وبالذات أمريكا والغرب، وهذا ساعد على تخليق تطرف واسع، وتبدو طريقة التعامل -وبالذات بعد أن أصبحت شعارا خمينيا- مجالا لتفخيخ العقول بالأحقاد والعنف والإرهاب. ظللنا كثيراً نتجاهل واقع القضية ولم نتعامل معها بعقلانية فترات طويلة وبالأخير انفجرت على أنفسنا وتخلفت قضايا عربية من العراق إلى سورية إلى اليمن إلى ليبيا، وأصبحت سورية قضية معقدة ونتائج عنفها على العرب أشد وطأة وأقسى من حروبنا مع إسرائيل، وأصبحت المقاومة الإيرانية والممانعة تحرق شعب سورية وتلتهم العراق وتخرب اليمن وتهدد بخراب شامل لمجالنا العربي، وأصبحت إسرائيل بعد انفجار مجالنا العربي وبروز التوحش الإيراني في هامش ما يحدث في الوعي العربي، وهذا نقل القضية الفلسطينية إلى الهامش، وأصبحت مظلوميتها تقل مع الوقت بفعل مقارنتها بمظلومية الشعب السوري التي تنتجه الممانعة. تولدت مخاطر في المجال العربي جمدت حيوية القضية الفلسطينية ولم تعد حتى شعارا للتعبئة، فقد كشفت الأوراق وتعرى المجال العربي.
حسب تصوري أن القضية الفلسطينية تحتاج إلى نقلة فاعلة وعبقرية للتعامل معها، وهذا يقتضي التفكير بالتجربة الماضية وإخراج القضية الفلسطينية من التوظيفات العربية والإيرانية وتحريرها من أن تكون مجالا للصراع، وتتحول إلى خيارات سلمية مفتوحة تمكن المنطقة من تحقيق نقلة في فهم الدور المطلوب، والنموذج المفترض أن تكون عليه المنطقة للتكامل في قوتها وتصبح مجالا مفتوحا للعالم ومجالا منفتحاً على العالم وفق مشاريع كبرى تركز على السلام داخل كل دولة وبين الدول باعتبار ذلك المدخل الأول للتواصل مع العالم وإحداث نهوض حضاري يمكننا من تنمية الإنسان العربي ليكون شريكا لهذا العالم لا إشكالية منتجه للمشكلات والصراعات المدمرة. تشكل دول الخليج نموذجا متحررا من كثير من العقد ولكنها فيما يخص القضية الفلسطينية مازالت متمسكة بالوعي التقليدي في التعامل معها وتشكل المخاطر الإيرانية التحدي الأبرز لعقلنة الفهم العربي للقضية الفلسطينية.
الأصولية الحوثية
• كونك سياسيا يمنيا، كيف ترى الصراع الدائر حالياً في المنطقة؟ لماذا عاصفة الحزم وإعادة الأمل وما الإنجاز الذي تحقق؟
•• تمثل عاصفة الحزم وإعادة الأمل انطلاقة جديدة لمفهوم الأمن بمعناه الشامل، فالاختراق الإيراني للمجال العربي بلغ ذروته بمجرد أن أعلن مسؤولون إيرانيون أن صنعاء عاصمة رابعة، وكان لا بد من فعل من خارج الصندوق لإنقاذ اليمن بعد أن بذلت جهودا جبارة لإخراجه من معضلة الصراعات التي كادت تفجر اليمن بالحرب الأهلية نتيجة التناقضات الداخلية التي بلغت مداها قبل المبادرة الخليجية، ولم يكن الانقلاب إلا تمردا صاغته مخططات ولاية الفقيه وليس حاجة داخلية، بل كان فعلا مضادا لحاجات الواقع ومتطلباته وتحديا للتغيير الذي أنجزته مختلف القوى عبر وثائق وطنية لإنقاذ اليمن وتفكيك معضلاته. ولم يكن التدخل العربي إلا الخيار الإجباري لإنقاذ اليمن ولتثبيت جذور دولته الوطنية المكتملة مع محيطها العربي، فقد مثلت الحوثية وتغولها خطراً على الهوية الوطنية اليمنية ومشروعا مضادا للدولة الوطنية وطبيعة نظامها وفجرت البعد الطائفي والعنصري في الجغرافيا اليمنية ونسفت المشروع الوطني والتحديث من جذوره وتعاظم خطرها بعد أن تمكنت من زمام الحكم بعد الانقلاب، فانبعاث الكهنوتية الأصولية الحوثية كوحش مرتبط عضويا بالخمينية مثلت تهديدا مباشرا للدولة اليمنية وللأمن العربي والخليجي، فالحوثية ترى اليمن بعيون ولي الفقيه وأداة وظيفية لمشاريع الغيبيات التي تؤسس لها النظرية الخمينية بأبعادها الغيبية والتي تركز على إدارة حرب ضد السعودية لتعجيل خروج غائبهم الذي أنتجته كهنوتيات الفرس. وباختصار، كانت العاصفة العربية والمقاومة الوطنية فعلا وطنيا وعربيا نابعا من مخاطر الحاضر لإعادة بناء الوجود العربي بفاعلية مستقبلية قادرة على البناء والتعمير، وهي تمتلك عوامل الانطلاقة الراسخة لتحقيق الأمل في بناء مستقبل ثابت الأركان وفي الوقت نفسه تحرير الدولة الوطنية من الاختراقات القاتلة لوجودها. تمكنت العاصفة بمجرد انطلاقتها من التأسيس لمرحلة جديدة في المنطقة ودفعت بالطاقات الخليجية إلى مخاض التخلق الجديد، لتكون شريكا فاعلا قادرًا على تفعيل فائض القوة التي تمتلك المنظومة الخليجية وإعادة بناء مركزية الدولة السعودية بفاعلية لتكون نتاجا متماهيا مع التحديات ومواجهتها وفعلا منتجاً للقوة المتحركة بأبعادها العسكرية والسياسية والاقتصادية. إنجاز العاصفة الأهم أنها أنقذت فكرة الدولة، وبعثت الوطنية اليمنية في لحمة مكتملة مع محيطها، وأسهمت في بعث حيوية الدولة السعودية ودورها القوي، وساعدت على بعث وتفجير الطاقات الكامنة لدول الخليج وتنمية قدراتها في مواجهة المخاطر والتهديدات. الحرب لم تكن إلا الخيار الإجباري الذي تبدو صعوباته مقلقة للبعض إلا أنه كان إجباريا، وعسى أن تكرهو شيئا وفيه الخير الكثير.
• في مخاض التحولات التي تعيشها المنطقة، كيف تمكنت السعودية من مواجهة المخاطر؟
•• نقطة الارتكاز الأهم حيوية للدولة السعودية في تثبيت أركان القوة بمفهومها الشامل، بأبعادها الناعمة والصلبة، ويمثل الارتباط العميق بين الحاكم والمحكوم مصدر الإنجاز الذي تحقق، فمركزية العائلة الحاكمة في الوطنية السعودية رسخ جذور الوحدة والتواصل وأسس لشرعية صلبة قوية متماسكة مكن الجغرافيا السياسية للمملكة من التكامل وبناء جذور الدولة الوطنية ورسخ وجودها كفاعل مؤثر وقادر على مواجهة المخاطر والتحديات الخارجية، فالتلاحم عامل قوة يجعل كل إنجاز ممكن، وما نراه من تنمية شاملة وتنامي التأثير السعودي إقليميا ودوليا يعكس هذه اللحمة الوطنية التي شكلت مصلحة مباشرة للفرد السعودي، ما مكنه من تجاوز المعضلات التي تواجهها كثير من الدول العربية على مستوى الهوية وانفجار العصبيات القاتلة لفكرة الدولة، كما مكنت الفرد السعودي من مواجهة الانبعاثات الأيديولوجية لنزعاتها العلمانوية والإسلاموية ولم تتمكن من تحريضه، بل كانت فاعلية المواطن قوة الصدّ الأهم في امتصاص التحريض والتعبويات الزائفة التي وظفتها قوى كثيرة لهز أركان الدول الوطنية في المنطقة. وسنجد أن محصلة الوعي المتراكم في تاريخ الدولة السعودية وبالذات مرحلة الملك المؤسس بين الحاكم والمثقف وبينهما وبين بقية المواطنين تمثل نموذجا في منطقتنا وكان لها دور محوري في الأمن والاستقرار وفي حيوية البناء التدريجي في المجالات كافة، وهذا حقق نقلات نوعية راسخة لا أفعالا طارئة قابلة للاهتزاز والانهيار، كما هو الحال لدى الدول الأخرى ذات النزوع الأيديولوجي المكثف.علاقة مبنية على المسؤولية المشتركة في حماية الكيان ومواجهة المخاطر وتفعيل الدور الجمعي والفردي بناء على همّ يركز على المصالح الخاصة والعامة بما يثبت قوة الدولة ويحقق للمواطن طموحاته. والملاحظ أن هناك تعددية على مستوى الانتماءات الجغرافية والفكرية والثقافية وتحيزات متنوعة في أوساط النخب الفكرية والسياسية، وهذه الحيوية والتنوع الفريد لم يتحولا إلى إشكالية، بل فاعلية قوية ومصدر تحول التنوع إلى فعل منتج للانسجام الكلي مركزية العائلة الحاكمة التي تشكل شرعيتها لكل المنظومات المتنوعة طاقة الالتحام ومصدرا لتفكيك النزاعات التي تحاول قوى خارجية وانتهازيات حاقدة داخلية تفجيرها بين الحين والآخر. من ناحية أخرى، ستجد قدرة فذة لدى المملكة في التعامل مع الإقليم والعالم وفق مدرسة واقعية ملتزمة بالمصالح الوطنية كمحدد جوهري والتفاعل مع المصالح الدولية والإقليمية بواقعية ملتزمة بمعايير القوانين والأعراف الدولية، وهذا ما مكنها من جعل العلاقات الخارجية قوة مضافة لترسيخ جذور الدولة الوطنية وفعلا لخدمة مشاريع التحول الداخلي مع التزام بالهوية والحاجة والمتطلب التي يحتاجها الواقع بأبعاده الجماعية والفردية وحاجات الدولة.
المصدر: عكاظ