كاتب قطري
في أمثالنا الخليجية كثير من العِبر وسداد الحكمة! ولقد كان الآباء الأفاضل يردُّون على المواقف التي تواجههم ببيت من شعر الحكمة أو عبارة تحمل معاني الردّ المضاد أو المؤيد للموقف.
ووردَ في الأمثال: «جوّع كلبك يتبعك» و«ما حك جلدك إلا ظفرك» و«نوخذايين غرقوا المركب» و«من فوق هالله هالله.. ومن تحت يعلم الله».. وغيرها. ولقد استمعت إلى هذا المثل «غلطان من ربّى جرو غيره» من صديق لم أره منذ أكثر من عشرين عاماً.. حيث إنه ورد على لسان حاكم وجهه لحاكم آخر ضمن موقف معين استوجب هذا المثل.
القصد هنا في معنى المثل، وهو عدم جواز تربية «جرو» الآخرين، و«الجرو» هو الكلب الصغير، والمعنى ليس في ظاهر المثل، بل في داخله، وهو أن الأجنبي لن يفيدك، مهما عمل، وأنه ينقلب عليك، أو قد يضرك في المستقبل، بعكس اعتمادك على أبنائك.
ولكم عانت شعوب عربية وغير عربية من نيّر وظلم الأجنبي، الذي جاء على هيئة تبشير أو استعمار أو انتداب، وسيطر على مقدرات الشعوب، ورهنَ مستقبلها بمصالحه وأهدافه الأيديولوجية والعسكرية، وصاغ السياسات المحلية ضمن تلك المنطلقات. فصار أن عانت الشعوب من سرقة ثرواتها، وتخلّفت -في بعض المناطق- التفاهمات الوطنية، وتم إقصاء الوطنيين من أبناء البلاد المخلصين إلى المنافي أو الزَّج بهم في السجون. وصار أن وسَمَ الاستعمارُ كل المطالبات بالحقوق وبالتحول المدني بأنها «مؤامرة» أجنبية وسعي للانقلاب ولهاثٌ على الكرسي، ما أوغر الصدور «الضيقة» ضد كل المثقفين والمنادين بالإصلاح في المنطقة العربية، وهم ليسوا «جراء» من الخارج، بل وُلدوا من نفس الأرحام الوطنية.
وبعد انحسار قوة الأجنبي، وتحرر البلدان العربية من القوى الاستعمارية، برزت قضية أخرى ينطبق عليها ذات المثل «غلطان من ربّى جرو غيره»، وتمثلت في استجلاب بعض الأيديولوجيين من الخارج إلى المنطقة العربية، من الذين لديهم أجندات خاصة لا تتفق ومجريات الأمور في المنطقة، وتم تقريبهم بصورة ملحوظة ليشكلوا «إسفيناً» بين آمال وتطلعات الشعوب وبين ولاة الأمر. وعمل هؤلاء «الجراءُ الأجانب» على تفتيت الوحدة الوطنية، وبث الفرقة بين المواطنين، حيث استمالوا عدداً كبيراً من المواطنين، لأنهم «عزفوا» على وتر الدين، ذلك أن هذا الدين الإسلامي العظيم يؤمن به معظم سكان العالم العربي والإسلامي، والأدهى أن اتجاهات هؤلاء «الغرباء» كانت متناقضة مع واقع حال الصيرورات الدينية والقيمية في العالم العربي، ولكن تلك الاتجاهات لم تكن «ظاهرة» في أقوالهم وأفعالهم، حيث إنهم يعملون في الخفاء واتخذوا من الدين ستراً واقياً لا يمكن لأحد أن ينفد من خلاله.
ولقد طالت اتجاهات «هؤلاء» معظم مناحي الحياة، من التعليم إلى الإدارة إلى التخطيط وصولاً إلى السياسة!. ووصل نشاطهم إلى أدق تفاصيل الحياة، وبعد ستين عاماً من وجودهم، برز أحد المسؤولين في منطقة الخليج ليقول: «إن هؤلاء سبب كل المشكلات في مجتمعه؟!».
وهكذا نجد أن الأمور –دائماً- تبقى ضبابية وغير واضحة في الدول المتحولة، إن تم تغليفها بلباس الدين، ولا يستطيع أي نظام الاقتراب منها، أو حتى توجيهها خوفاً من سخط المجتمع المتدين المتسامح والبسيط الذي قد لا يقرأ أوراق المستقبل بصورة واضحة ودقيقة.
لقد ورد ذلك المثل من شخص أميّ لم يعرف الحضارة ولا الكتب ولا الأقمار الصناعية، بل كان يدرك الفراسة والحكمة. فكم نحتاج هذه الأيام إلى الفراسة والحكمة، والنظر في عمق المشكلات والظواهر، بعد أن دخل مجتمعنا في لجج الأحزاب والانتماءات واختلطت عليه الأمور، بل وتم «تسييس» الدين، وضاع الشباب بين إغراءات «حور العين» في كل مكان وبين إزهاق الأرواح بالأحزمة الناسفة، وبين المنابر السياسية والفضائيات التي «غرّبت» عديداً من المجتمعات، وها هي تنشر الفوضى في الأماكن المنتظمة.
علينا أن ننبه، ونوقف زحف الفوضى إلى مجتمعاتنا، ونحفظ المستقبل، ولا نقرّب الآخرين الذين لا يريدون خيراً بنا.
المصدر: الشرق