كاتب سعودي
إرفاين – كاليفورنيا – مساء الثاني من أبريل الجاري.
تقاطر طالبات وطلاب مبتعثون في قاعة الاجتماعات بمجمَع سبكترم بمدينة إرفاين، وازدحمت القاعة بالوجوه النضرة الشابة المتطلعة الطموحة، ودارت بيننا الأحاديث المختلفة في جو مشحون بالفرح والمعرفة والتساؤل والتطلعات.. وكانت هناك في ركن قصي بنت منزوية منكسرة وكأنها تود الاختفاء، أو كأن حزنا طاويا يعصرها وينفيها في مكان غير الذي نحن فيه.
بعد فض الاجتماع، كان طبيعيا أن يتقدم بعض المجتمعين أفرادا، يعرضون حالات أو إنجازات، أو آراء أو مواقف شخصية، وهذا يأكل وقتا كبيرا.. والبنت باقية في مكانها لا تتحرك، يدها على حجابها الصارم. تقدمت بعض الفتيات ليلفتن انتباهي أنها تنتظرني ولن تتحرك حتى تبدي ما جاءت من أجله.. لم يخفَ عليّ وجودها ولا حالتها النفسية. تقدمت لها وهي على كرسي منزوٍ يضع الرتوش الأخيرة على اللوحة الحزينة.
قالت لي: لقد تقدمت للملحقية بواشنطن لقبولي في الماجستير كما هي الإجراءات المتبعة، خصوصا أنني أنهيت البكالوريوس في مادتي التي جئت من أجلها، مع موافقة مسبقة للماجستير.. ثم حصلت على موافقة من جامعة جيدة ومعترف بها وأرسلت للملحقية، إلا أن الملحقية لم تقبل بحجة أن هذا لا يوائم دراستها في البكالوريوس. جيد، الفتاة بحثت عن جامعات أخرى تقبلها في المجال الذي تريده الملحقية ولكن الملحقية لا ترد.. أو أن المشرفين لا يردون. ورغم هذه المشكلة الكبيرة التي تقف عائقا ضد مستقبل فتاة مبتعثة، إلا أن المشكلة الأكبر أن البعثة أُوقِفَت عنها، وباتت مكشوفة بلا مكافآتها المالية. لا أدري بالضبط ما حصل لأخيها المبتعث معها والذي هو محرمها، ولكن الذي صار أن الفتاة لم تعد تجد ما تأكله. ثم جاءت النازلة بأن صاحب المنزل يلاحقها بالإيجار، وهي في حي بلوس أنجلوس، ويهدد بطردها منذ الغد إن لم تسدد إيجارها وقد صبر عليها أياما.. وكان مقررا للبنت أن تضيع في المدينة الكبرى بلا مأوى.
ولكن الروح الجماعية التعاونية بين المبتعثات والمبتعثين يبدو أنها عالية وبالغة الحساسية، فسرعان ما تقدمت مجموعة فتيات وتبرّعن لها بمبلغ الإيجار حتى تحل قضيتها.
المسألة هنا ليست احتجاجا مني على الملحقية في المسألتين الفنية والعلمية البحتتين، ولكن الاحتجاج الشديد هو ضعف التواصل وأحيانا عدمه من الملحقية للمتصلين من المبتعثين. ولي صداقات جيدة مع مسؤولي الملحقية، وأرى فيهم الصلاح والجدية.. ولكن الواقع يقول شيئا آخر. يكاد يجمع الطلبة تقريبا الذين قابلتهم بمدن عدة وبمن تفضلوا علي بزيارات لم تقف كرما منهم علي على الشكوى من هذه الظاهرة: “الملحقية ما يردون.. وإن ردّوا، إما متأخرين وإما جافين بحيث لا يمكن نقل المشكلة بشكل سهل.”
بنت لوس أنجلوس تلك لو لم تتلاحقها الأيادي الكريمة من بنات مثلها وبعمرها لرُميَت حرفيا بالشارع، بمدينة بالعة غريبة مخيفة جافة مثل لوس أنجلوس.. فتكون هنا مسؤولية من؟
والمسألة أيضا ليست مسؤولية، وليست لوما على من قصر هي أم هم.. ولكنه الشعور الإنساني بين إخوة في الغربة، فكيف لمّا تكون جهة مسؤولة عنهم، وتتشرد وتجوع بنت سعودية، فقط لأن أحدا لا يرد على مكالماتها ولا بريدها. وتصوروا لو – لا قدر الله – صار أمر جلل للفتاة.. خصوصا أنها بدت مريضة ناقعة الصفرة لم تأكل لأيام لعدم وجود المكافأة ولفقر أهلها.. ماذا سيكون موقف الملحقية؟ ألم يكن سهلا التواصل.. أو حل مشكلتها. أو مساعدتها إن كان هناك ظرف عائلي يزيد أمورها سوءا؟
كل ما نطلبه الآن من الملحقية ألا تكون فتاة أخرى مثل فتاة لوس أنجلوس ولدي رسالتها بالكامل.. إن تفضل أحد منهم بالاهتمام والسؤال.. وكيف تتم معالجة ذلك؟ بحسن التواصل.. فقط حسن التواصل!
المصدر: الاقتصادية