فتاوى لا تنتهي

آراء

خاص لـ هات بوست: 

تقدم شاب للعمل في شركة تختص بنشر الموسيقى عبر الوسائط المتعددة، وبعد اجتيازه الاختبارات الخاصة بالشاغر المطلوب، تمت الموافقة على تعيينه، لكنه اعتذر لأن هناك من أخبره بحرمانية هكذا أعمال، وسيبحث عن عمل آخر لا يغضب الله.

ربما لم يكن الشاب مضطراً لهذا العمل فانصرف لغيره، دون أن يتضرر، وربما لجأ إلى عمل آخر خارج نطاق دراسته ليتجنب الوقوع في الحرام، وافتراضاتنا هذه متفائلة جداً في ظل الأوضاع الاقتصادية الراهنة، وسنجد من يقول سيرزقه الله من حيث لا يحتسب، لأنه عمل بما يرضيه، وينسون أن الله يرزق الناس مما عملت أيديهم.

قد نعتبر الموضوع حالة خاصة، نادرة الحدوث لا تمس حياتنا الشخصية، ونرتاح لفكرة أن تحريم الموسيقى يصدر عن قلة من المتطرفين، لا يشكلون نسبة مرتفعة في مجتمعاتنا، ونحن نعيش إسلاماً وسطياً معتدلاً، لا مكان فيه للتشدد، ثم إن الموسيقى ليست بذات أهمية، ويستطيع الإنسان العيش بلا طرب، كما أنه يستطيع العيش بكلية واحدة، أفضل له من أن يدخل لجسده كلية خنزير.

وإن كنا قد اعتبرنا تجاوزاً أن الفتوى الأولى متطرفة، إنما الفتوى الأخرى صدرت عن الأزهر، لا عن داعش، فما لم يكن الإنسان مضطراً، لا يجوز له اللجوء إلى زراعة كلية خنزير، وكأن تبديل الكلية جراحة قد تكون تجميلية وليست اضطرارية، أو أن الإنسان يبدل كليته من باب الترفيه ليس إلا.

ولا نملك والحالة هذه إلا أن نحمد الله الواحد الأحد، الذي جعل الناس مختلفين، ومن ضمن هذا الاختلاف كان هناك “كفار” يعملون ليلاً نهاراً، ليكتشفوا علاجاً هنا، ولقاحاً هناك، ليستفيد منه الناس، ولم يضيعوا وقتهم في فقه دخول الحمام، بل تركوه لأهله، وإلا كنا نرزح بأمراضنا ننتظر رقية شرعية أو شيخ يخرج الجان.

لكن المسألة تتعدى فتاوى تتحفنا بين يوم وآخر لتعكس منهج تفكير يسود في مجتمعاتنا، يبدو أنه عصي على التطور، فسيف “الحرام” مسلط على رؤوسنا، يدخل في أدق تفاصيل حياتنا، ولا نجرؤ على تخطيه، وبدل إله التمر الذي صنعه العرب ثم أكلوه حين جاعوا، نصنع كل يوم آلاف الآلهة، ونتركها تتحكم في أمورنا باسم الله، زوراً وبهتانا، ولا ندري أو نتجاهل أن الله بريء مما نشرك، فالحرام بيده وحده، ولا يملك سواه هذا الحق، والحرام بيّن، لا يحتاج لمن يكشف عنه، وباب التحريم أغلق مع انقطاع الوحي عن الرسول محمد (ص)، وكتاب الله دليلنا، والمحرمات لا لبس فيها، وكتاب الله دقيق، دقة خلق هذا الكون، وإلا لما قال تعالى “لحم الخنزير”، فقد علم سبحانه أن في ذاك الحيوان صمام قلبي كصمامات قلوب البشر، وكلية يبدو أنها كذلك، ولا نعرف ماذا بعد.

والمفارقة أننا غير معنيين بالتجارب العلمية التي تجرى، ولا بالأبحاث الطبية أو غيرها، وكل ما يعنينا أن نسارع لنبحث عن فتوى، ونحن في الوقت ذاته مستعدون لإيجاد فتوى معاكسة تشكل حلاً حين اللزوم، في لف ودوران لا نهاية له، يجد عملاً لكل المنتفعين من باب الرزق هذا، ضاربين عرض الحائط ببند أساسي من محرمات كتاب الله هو التقول عليه جل وعلا، بل في افتراء واضح {وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَـذَا حَلاَلٌ وَهَـذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُواْ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ} (النحل 116)، والأنكى أننا لا نكتفي بما نحن عليه، بل نطلق الأحكام ونكفر الناس ونرسلهم إلى النار.

والمفارقة الأغرب، أو أنها نتيجة طبيعية، بعد كل هذا الكم الهائل من الفتاوى لا نرى تقدماً ملحوظاً لمجتمعاتنا على صعيد القيم الأخلاقية، إن لم نقل انحداراً فيها، علماً أن المحرمات الواردة في كتاب الله، تكاد تكون كلها في نطاق الأخلاق والعمل الصالح، فهل لنا العودة إليه والنظر بما فيه، ثم المضي قدماً دون الالتفات لمن يشدنا إلى الوراء، فلا يقدم لنا فائدة ولا يتركنا نستفيد مما قدمه غيرنا، ابتداءً من الموسيقى لغة الكون وليس انتهاءً بكل ما توصل إليه العلم والمعرفة.