خاص لـ هات بوست:
اقتضت طبيعة التفكير النحوي القديم تأسيس النحو العربي تأسيسا غير منظم في مراحله الأولى لأمرين رئيسين: طبيعة المرحلة، وإشكالية التأليف في علوم ليس لها معادل أو مقايس، ويُحمد لتلك المرحلة تأسيس قواعد كلية انطلقت من قراءة عميقة للنص القرآني، وللمنقول عن العرب بالاعتماد على النسق الفلسفي الذي تجاوز الجزئي إلى الكلي (الاستقراء)، هذا التقعيد الذي بدأت إرهاصاته منتصف القرن الأول الهجري أو قبله، لا يمثل في نظري أي مدرسة نحوية بالمفهوم العلمي والفلسفي للمدرسة، ناهيك عن المفاهيم التربوية التأسيسية التي تقتضي ضوابط محددة، وقرائن معتبرة فيما يمكن أن ننعته بالمدرسة بمفهومها الخاص أو العام، والضوابط التي تحدد المنطقيات المتعلقة بالتحديد الزمني والمكاني، بالإضافة إلى واقع الحال، وإشكاليات الثقافة المعاصرة التي تقتضي منهجية واضحة، وأطر فلسفية لصناعة (المدرسة) دون التقيد بشخصيات محددة، أو الاقتصار على موضوع، أو الارتباط بتجمع علمي، أو التركيز على طابع الاتجاه، لا سيما في العصور الأولى (حتى نهاية القرن الثالث فيما أرى)، إذ لم تكن ذات فلسفة تُعنى بالتدريس تحت رئاسة محددة، أو تلمذة معينة، وفق أسس واقعية للمفاضلة المدرسية.
وحين نعمل على استرداد التاريخ بوصفه منهجا يُحتكم إليه ونحاول قراءته وفق ضوابط الفكر النحوي مع إنعام النظر في حوادثه وأحاديثه خصوصاً فترة(التكوين) أو (النضج) لسنا أمام عملية تقنية (جامدة) تهدف إلى جمع الوقائع فحسب، بل نجد أنفسنا أمام مشروع معرفي-أخلاقي يُعنى بالتحليل المنطقي المنبثق عن دلالات فكرية واسترشادية تقودنا إلى وضع تصور تقريبي (يقرب من الصواب) حين نعطي كل عصر ما يمكن أن يكون واقعياً موافقاً للعقلية العربية والنحوية، على الأقل في ذلك الزمن المحدد (القرن الأول)، مع الاتفاق -سلفاً- على أن التاريخ تُعاد كتابته كلما تغيّرت أدواتنا المفهومية، ومن ثم فإن القراءة (الحاذقة) تستلزم استرداد الحوادث التي تتصف بضبط النقل، وجودة السند، لاسيّما أن حوادث التاريخ لا تتكرر، إذ هي (مؤرخة) ولو ذهنياً.
هذا الاستنتاج يقودنا إلى القول بأن الحديث عن فكرة مبكرة للمدارس النحوية أمر لا أظنه موفقاً بالنظر إلى مشروعين مهمين: مشروع التمازج الفكري بين النحاة، وخلط البحث النحوي القديم بين المستويات اللغوية المختلفة، أضف إلى هذا وذاك أن الرغبة في التأسيس واختلاف المناهج والمشارب لا يمكن أن يكون مجرد محاولة فردية تُفكر ثم تؤسس، من -هنا- فإن فكرة المدارس النحوية في التراث العربي، ولا سيما الكوفية والبصرية، تُعد من أبرز الظواهر العلمية التي طبعت تاريخ الفكر اللغوي بطابعها الخاص، حيث انشغل العلماء قديماً بتمييز هاتين المدرستين، بل نسبوا كثيراً من الخلافات إلى ما اصطلحوا على تسميته بـ “مدرسة البصرة” و”مدرسة الكوفة”، غير أن البحث النقدي المعاصر بدأ يراجع هذه الثنائية مراجعة متأنية، ضمن مشروع(تحريضي) هل نحن إزاء مدارس حقيقية بالمعنى المؤسسي والعلمي، أو أننا أمام تقسيم تاريخي نَشَأَ بفعل العوامل السياسية والمناطقية وأعيد إنتاجه في كتب التراث؟.
والذي أوقع-في نظري- كثيراً من المتأخرين في هُوة القول بالتصنيف المدرسي إنما هو ما وجدوه من إغراءات (تأليفية) في كتب التراجم، والطبقات، وسرد (مكثف) لرؤساء المدارس، وتلاميذهم، وتلاميذ تلاميذهم، وهو لا يعدو أن يكون تصنيفاً نسبياً نصيبه من الصحة حسن الترتيب فقط.
والواقع أن هذه الفكرة بعيدة عن المنطق الصحيح الذي يُرتب الأمور وفق ضوابط معينة يمكنها أن تقطع بهذا المفهوم أو تنفيه، ودعني أصف الفكرة التقسيمية بأنها مجازفة من غير ثبت أو تحقق، لأنها ربما لا تتصل بالمعنى المؤسسي، فلم يكن ثمة بناء علمي مغلق أو قوانين حاكمة تجعل من كل مدرسة كياناً مستقلاً، بل نجد علماء بصريين يتبنون آراء كوفية والعكس، والخلاف بينهم في المنهج لا الانتماء الصارم.
وحتى أكون منصفاً فإن جُل ضوابط نشؤ المدرسة بوصفها نسقاً فكرياً ليست متحققة في المدرسة الكوفية ولا البصرية، ناهيك عن بقية المدارس التي اتخذت منهج (الاجترار) العلمي وسيلة للتصنيف، ومن أبرز تلك الضوابط: ضابط الضرورة الوجودية، وهي مرحلة لا حاجة لها في البداية لاحتكامها إلى الوصول إلى درجة الوعي باللغة، أو الإحساس بالخطر الذي ينشأ من خلاله مشروع علمي (مدرسي)، وذاك غير متحقق في زمن التوظيف النصي، وتزايد الفصاحة، ورهان الوعي (العربي)، وتوافر المرجعية المعيارية غير النسبية، إذ ما زلنا في عصر الإحساس بالمسؤولية تجاه اللغة ، وحمايتها من الخلط والإعجام.
لذا فإن مفهوم (المدرسة النحوية) وإطلاق ذلك في العصور الأولى فإني أزعم بعده عن الواقع خاصة حين نتجه إلى القول بأن (المدرسة) لا تعني تجمعاً من الآراء، أو مناقشات علمية في حدود المنهج المتفق عليه بين المذاهب، بل أشبه بالكائن المعرفي الذي يوجد (حتماً) عند تقاطع الضرورة التاريخية، والمرجعية النصية، والعقلانية المنهجية، ويبرز تمايزه من خلال الجدل والصراع الفكري، وهو ما تحقق في نظري منذ بداية القرن الرابع الهجري، لكنه لم يُسلم بالضرورة إلى تحقق التباين المنهجي، أو الخلاف الكلي في الأصول والقوانين، وإنما أدى إلى اتجاهات منهجية متداخلة، لا مؤسسات قائمة بذاتها، يغذّيها الخلاف، ويُوقد شرارها تباين النظرة إلى النصوص، وعمق التأويل.