كاتب ومحلل سياسي- لندن
بعد أعوام متتالية لم تُسمع خلالها كلمة «السيادة» من أفواه الفريق السياسي الذي يهيمن عليه «حزب الله» في لبنان، كان لا بدّ من أن ينتهك مسلحو «داعش» و «جبهة النصرة» الحدود ويهاجموا الجيش اللبناني ليتذكّر هذا الفريق أن ثمة شيئاً اسمه «السيادة» وأن ما حصل اعتداء عليها. كانوا يستهزئون بالفريق الآخر عندما يتحدث عن السيادة والاستقلال، عن الدولة ومؤسساتها، وبالأخص عن الجيش كمؤسسة شرعية وحيدة مخوّلة حمل السلاح.
بديهي أن هجوم الارهابيين عبر الحدود «اعتداء على السيادة»، ومن الطبيعي أن يتصدّى لهم الجيش ويطردهم، ومن الواجب أن يتضامن اللبنانيون جميعاً مع الجيش. وهل كان متوقعاً أن يتضامن أحد مع «داعش» أو النصرة» مثلاً؟ هذان التنظيمان لا يعنيان أي طرف سياسي معروف في لبنان، بل لا يعنيان الشريحة الواسعة التي تعاطفت مع الشعب السوري في انتفاضته على نظام فعل كل شيء ليثبت إجرامه في حق ما يُفترض أنه بلده ومَن يُفترض أنه شعبه. وإذا وُجد فعلاً مَن يتماهى مع «داعش» وأشباهه فهو بالتأكيد هامشي لا يستطيع أن يفرض نفسه على البلد، وبالأخص على المجتمع السنّي الذي برهن تاريخياً أنه حارس «الدولة» مثلما أن المسيحيين ولا سيما الموارنة حراس «النظام». وخلال العقود الثلاثة الأخيرة أدخل الشيعة اضافةً مهمةً الى قيم هذه الجمهورية بخوضهم مقاومة باسلة أجبرت المحتل الاسرائيلي على الانسحاب من جنوب لبنان، إلا أنهم ما لبثوا أن أخذوا تلك المقاومة (التي احتكرها «حزب الله») الى مكان ووجهة آخرين، فبدل أن تعزّز لبنانيتهم ووطنيتهم اذا بها تصبح بندقية في خدمة نظامي سورية وإيران.
قبل الهجوم على بلدة عرسال وقبله كان الجدل مشتعلاً في لبنان بين مَن يطالبون «حزب الله» باسترجاع مقاتليه من داخل سورية وبين الحزب الذي قدّم أمينه العام حسن نصرالله منذ 2012 أكثر من رواية لتبرير تدخله وقتاله الى جانب نظام بشار الأسد، بدءاً من: 1) الدفاع عن لبنانيين شيعة ومسيحيين في قرى متداخلة مع الأراضي السورية: الى: 2) حماية ظهر «المقاومة»، فـ: 3) مواجهة «المؤامرة الكونية» على سورية ولبنان، و: 4) ضرورة «انقاذ» نظام الاسد، الى: 5) محاربة «التكفيريين»… ولم تكن هذه سوى «روايات» لحقيقة واحدة هي أن تدخل «حزب الله» لم يكن تورّطاً ذهب اليه مضطرّاً بل تنفيذاً لأوامر طهران وللخطط التي وضعها الجنرال قاسم سليماني. لذلك لم يبالِ نصرالله ولا حزبه بأي اعتبار داخلي وطني، رامياً وراء ظهره بسياسة «النأي بالنفس» (عن الأزمة السورية) التي تبنّتها الحكومة السابقة التي أشرف على تشكيلها، كما تجاهل «اتفاق بعبدا» الذي أقرّ بموافقته في هيئة الحوار الوطني، وكان الاتفاق واضحاً في نهيه جميع الفرقاء عن التدخل في أي من صراعات المنطقة.
ومنذ بداية الأزمة في سورية، راح «حزب الله» وحلفاؤه يسلّطون الضوء على بلدة عرسال، كونها حدودية وسنّية، فاستنكروا أولاً أن يستقبل أهلها نازحين هاربين من وحشية «شبّيحة» النظام، ثم نددوا باستقبالها جرحى سوريين ومعالجتهم، ثم اتهموها بتمرير أسلحة الى داخل سورية كونها ممراً قديماً للتهريب وسبق لنظام دمشق أن استخدمه لتمرير أسلحة الى «حزب الله». لكن الجيش واستخباراته وضعا عرسال باكراً تحت المجهر، تحديداً بإلحاح من هذا الحزب وكذلك من دمشق (بحكم التنسيق بين الجيشين)، ما حوّل البلدة الى مصيدة للثوار السوريين، وبالتالي فإن الأطراف الثلاثة كانت على علم بكل ما يجري فيها. أسوأ ما واجهته عرسال كان ضغط النازحين الذين فاقوا قدرتها على الاستيعاب، ولم توافق الحكومة إلا متأخرة على اقامة مخيم لهم وعلى تمكين هيئات الاغاثة من الوصول اليهم.
وسط هذه المحنة كان «حزب الله» يواصل التحريض ضد البلدة، لأنها خارج سيطرته المباشرة ولأنه لا يثق بتدابير الجيش داخلها أو خارجها. وبعد الاعتداء الارهابي أخيراً قيل إن المهاجمين استفادوا من تواطؤ من داخل المخيّم، ما شكّل غطاء للتنكيل بالنازحين. لكن استهداف الجيش، في حد ذاته، أشعل الجدل والاستغلال السياسيين. فأقطاب السنّة اعتبروا أن «حزب الله» هو مَن سعى الى توريط الجيش، وما رجّح ذلك في نظرهم أن هذا الحزب والقريبين منه سارعوا الى التبرع بتحليلات وسيناريوات مفادها أن «داعش» سعى الى مدّ «دولته» الى داخل لبنان على غرار ما فعل بإلغاء الحدود بين سورية والعراق، ما يعني تلقائياً أن هناك تواطؤاً بينه وبين سنّة لبنان. ولم يُعرف حقاً الى من وُجّهت تضليلات هؤلاء، لكن الأرجح أنها استهدفت ما يُعرف بـ «جمهور حزب الله»، أي الطائفة الشيعية التي قضى الكثير من أبنائها في الحرب من أجل انقاذ نظام الاسد.
لكن الأهم أن «حزب الله» وأبواقه قفزوا الى استطراد متوقع، من قبيل «ألم نقل لكم…»، وهو أن الحزب كان محقّاً في ذهابه الى القتال في سورية ليمنعوا «التكفيريين» من الزحف على لبنان. وزاد نائب سابق (مسيحي) أن الأمر لا علاقة له بقتال «حزب الله» في سورية بل بسعي «داعش» الى اختراق الحدود اللبنانية، وأنه لولا الحزب لكان المخطط نجح، مستخلصاً أنه بعد أن تنكشف الحقائق سيكون على الجميع أن يشكر «حزب الله». وما دامت سوق البروباغندا فُتحت، وبعدما انتهى أمر «المؤامرة الكونية» بدحرها، فقد بدأوا للتوّ مواجهة اخرى مع «مخطط صهيوني» يستخدم «داعش». اذاً فالرسالة السياسية «ليس لكم سوى الاعتماد على ايران»…
كان لافتاً أن «حزب الله» اهتم باستثمار معركة عرسال ولذلك أراد لها أن تطول وألا تنتهي بسرعة وبتسوية، فشارك في القتال كطرف ثالث لا مصلحة له في أي هدنة، وحاول تعطيل وساطة «هيئة العلماء المسلمين» أو إفشالها، بل تطلّع الى انفجار أكبر للوضع في طرابلس. ذاك أن اقحام الجيش في معارك وتوترات في مناطق السنّة بات مصلحة استراتيجية لـ «حزب الله»، لأنه يمكّنه من اظهار المجتمع السنّي كـ «بيئة حاضنة للارهاب» ويبعد الأضواء عن وجود مقاتلي الحزب في سورية وعن حقيقة أن الأهداف «اللبنانية» التي دأب نصرالله على توجيه الأنظار اليها (صيانة الأمن الداخلي وصدّ الارهابيين) لم تتحقق فعلياً بل حصل العكس، فالسوريون الذين تعرّضوا لاعتداءات «حزب الله» على أرضهم سيلاحقونه للانتقام منه في لبنان.
الأخطر لا يزال أمامنا، لأن ثبوت مساهمة «حزب الله» أكثر فأكثر في افتعال إقحام الجيش في صدامات متكررة مع جماعات سنّية (لم يكلفها أحد الدفاع عن السنّة)، بات ينذر بأخطار على تماسك الجيش وأجهزته، خصوصاً اذا كان في صفوفه مَن يوالون طائفتهم وحزبهم ولا يوالون الدولة والشعب. ولا يبدو «حزب الله» حريصاً على وحدة الجيش، ولا متخوّفاً من انقسامه، اذا حصل، لأنه جاهز للاستيلاء على هذا الجيش وإنهاء الازدواجية القائمة بينهما. وقد استاء الحزب مطلع هذه السنة عندما قدّمت السعودية ثلاثة بلايين دولار لتسليح الجيش، وكان ذلك لمواجهة الارهاب الداخلي غداة اغتيال الوزير السابق محمد شطح، واستاء أيضاً عندما زادت السعودية بليوناً آخر للمساعدة على دحر الارهاب الخارجي. هذه المساعدة تناقض منطق «حزب الله» ونياته وخططه، فهي تعزز منطق الدولة والجيش الشرعي. ولذلك بات مؤكداً أن تمكين الجيش من القيام بدوره وواجبه يمر بالضرورة بتحرره من اختراقات «حزب الله» وبأن يرفع هذا الحزب يده عنه، وإلا فإنه يجازف بتكرار تجربة انقسام الجيش التي سبق أن خبر اللبنانيون تداعياتها الكارثية خلال الحرب الأهلية.
المصدر: الحياة
http://alhayat.com/Opinion/Abdulwahaab-badrakhan/4115004